صناعة السلفية (2) - سهام القحطاني

  • 4/23/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

لا شك أن التوضيح الاصطلاحي عادة ما يرشد كثيراً لتتبع تطور أي فكر ومسالكه، وهو ما يقتضي منا التوقف أمام البعد الاصطلاحي لكل من «السنّة، الجماعة، السلفية»، لكن ما يُجب أن يُلفت له هنا أن هذه المصطلحات لم تُعرف في زمن الرسول الكريم ولم يُوثق من حديثه الشريف ما يُؤكد على تاريخيتها النبوية، أو زمن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، إنما وضعت زمن علماء الحديث والفقه عندما نشط علم المصطلح، وبذلك فهي مصطلحات ظهرت نتيجة اجتهاد العلماء لإحاطة الإسلام بإطار أيديولوجي يحافظ على صحته وخلوه من الشوائب وحمايته من الاستعمار الفلسفي. أول ما يتبادر إلى الذهن عند تصنيف أي شخص أو تيار فكري أنه على مذهب أهل السنة والجماعة «فكرة السلفية».. وبذلك فهناك تمام الاقتران بين السلفية ومذهب أهل السنة والجماعة، بل هناك توحد بينهما. بحيث أصبحت صفة السلفية دلالة لكلية أهل السنة والجماعة، ويُقال إن هذا الاقتران مصنوع مقصود لإعطاء ذلك المذهب قدسية خاصة عن غيره من الفرق الإسلامية، قدسية الفرقة الناجية، التي ما عداها بدعة وضلالة. يُقصد بالسلف هو «كل ماضٍ قديم» يتصف بأنه على «قيد الإحياء». إذن دلالة السلفية لا يُمكن تمام وظيفتها التأثيرية إلا في ضوء تأثيرها على الإنسان من خلال الاتباع والتقليد بحيث يُنتج فكراً وسلوكاً يتطابقان مع ذات ناتج السلفية في زمن ما قبل ماضويتها؛ وهو ما يعني إنتاج فكر وسلوك وفق مؤثر وآلية ماضيتين. وبذلك تستطيع السلفية التحرر من قيدها الماضوي من خلال قدرتها على تجديد دورتها الزمنية، وذلك التجديد هو الذي يمنحها دوماً قيد الإحياء. وبذلك يُمكننا تحديد أطر السلفية فيما يأتي: * الإيديولوجية الموجهة: إن تحديد طبقة دينية معينة بأفكارها وممارستها واعتقاداتها تُصبح هي قاعدة بيانات لمفهوم السلفية، يعني حصرية ذلك المفهوم في اعتقادات تلك الطبقة وتحويل اعتقاداتها إلى مبادئ للفهم ومعايير لصلاح الفرد أو فساده وأحكام للتقويم والتقييم، يتخذها الناس دستوراً فقهياً لهم. * المحتوى: «سيطرة مجموع الأحكام التي تُنسب لزمن مخصوص على القوانين الفقهية والحضارية في الحاضر والمستقبل». *الزمن: ولعل الزمن هو أعظم إشكاليات السلفية المصنوعة مع معارضيها، لأن في رأيهم متى ما استحكم الماضي في استعمار الحاضر والمستقبل أفسده بالرجعية والتخلف والانحطاط، وأعاق تفاعله النهضوي سواء مع التجربة المتجددة أو الآخر. ومن أشهر مجددي السلفية المصنوعة بعد مؤسسها أحمد بن حنبل رحمه الله، ابن تيمية ومن سار على نهجه، ثم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن سار على نهجه. وهناك من العلماء من يعادل بين السلفية والسنّة، وهو معادِل لا يُمكن الاطمئنان له لأنه يحصر السنّة في مفهوم مصنوع قابل للخطأ. السنّة في اللغة «سنّة الطريق» وهو طريق سنّه أول الناس، فصار مسلكاً لمن بعدهم، وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري النحوي: قولهم فلان من أهل السنّة «من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة. «أما السنة اصطلاحاً فعند المحدثين «المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً له، أو فعلاً، أو تقريراً، وكذا وصفاً وأياماً». وعند الأصوليين «كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير» وبذلك فعلماء الأصول يجعلون السنّة المصدر الثاني الذي تُستمد منه أحكام الشريعة. والسنّة عند الفقهاء تختلف باختلاف كل مذهب؛ فعند الأحناف «ما واظب صلى الله عليه وسلم على فعله مع ترك ما لا يفسد أي ركن ولايعطل أي تشريع بلا عذر» وعند المالكية «ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه.» وعند الشافعية «الفعل المطلوب طلباً غير جازم» وعند الحنابلة «ما يُثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه.» أما ما عُرف في علم العقيدة بأهل السنة، فيراد بها إطلاقان اثنان هما: «الإطلاق الأول: الإطلاق العام: والمراد بالسنة فيه ما كانت في مقابلة الشيعة؛ وبهذا المعنى يدخل في السنة جميع الفرق الإسلامية. الإطلاق الثاني: الخاص: والمراد بالسنة فيه: ما كانت في مقابل جميع أنواع البدع، فيدخل فيها من كانت عقيدته سليمة من شوائب جميع البدع والمحدثات، وهو ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في هذا المعنى كل من كان متلبساً بمنهج بدعي منحرف في الاستدلال والمسائل على حدّ سواء.» - ضوابط استعمال المصطلحات العقدية / سعود العتيبي - وهذا الإطلاق يجعل «الصحابة» معادلاً للسنّة بفضل الاتباع والتقليد. كما أن هذا الإطلاق ليس قائماً إلا بالاجتهاد، لأن البدع ما خالف سنة الرسول الكريم وليس ما خالف أثر الصحابة، في الأول ثبات معصوم بمقام طاعة الاستوجاب المطلقة، في حين أن أثر الصحابة وإن كان مبنياً على أصل السنة فهو قابل للخطأ والنقص والتأويل. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع.» وابن حنبل هنا يحوّل الصحابة ومن سار على نهجهم إلى أصل السنة، ويستثني ذكر سنّة الرسول الكريم، والاستثناء عنده هو حاصل العلاقة الحلولية التي أنشأها بين الصحابة والرسول الكريم، بحيث أصبح الصحابة هنا مُعادِلاً لعصمة ثابتة، وهذا مخالف في الإسلام. وقد صاغ الإمام أحمد بن حنبل المبادئ التي تُميز سنّة السلفية المصنوعة وهي تتمثل في «الإيمان، والقرآن، وصفات الله، وعالم الغيب، ورؤية أهل الجنة، وعلم الكلام، والقضاء والقدر، الكبائر، خلافات الصحابة». ووفق تلك المبادئ حددت صفات المؤمن السلفي ويبلغ عددها سبع عشرة صفة. كما حدد الإمام أحمد بن حنبل مؤسس السلفية خمسة أصول لمنهج السلفية وهي: الأصل الأول: القرآن. الأصل الثاني: الحديث النبوي الصحيح. الأصل الثالث: فتاوى الصحابة، فإذا اختلف الصحابة في الفتوى يتم اختيار الأقرب من الكتاب والسنة. الأصل الرابع: الأخذ بالحديث المرسل والضعيف. الأصل الخامس: القياس للضرورة، إذا انعدم في مطابقة المسألة الأصول السابقة. وبذلك فابن حنبل يُقدم الحديث الضعيف والمرسل على القياس، وهو ما يفتح المجال لإفساد الفتوى؛ فالحديث الضعيف يشوبه عدم صحة الإسناد وزيادة قد تصل إلى مرتبة التقوّل على الرسول الكريم، كما لا يسلم من شبهة أيديولوجية مُسيّرة، وبذلك فباطله أكثر من حقه. لكن هذه شخصية ابن حنبل يكره الاحتكام للعقلانية لِما فيها حسب تجربته الخاصة من إفساد لعقيدة المرء، ولعل هذا الرأي اكتسبه من محنته مع المعتزلة التي زجّت به في السجن والابتلاء الذي تعرض له بسبب خلافه الفكري مع المعتزلة، ولعله يظن أن عقلنة العلم الديني تُعقده وتُغمض من فهم الناس له وتُسقطه في ظلمة علم الكلام. وقد أنكر ابن حنبل استخدام آلية التحليل العقلي وما ينتج عنه من رأي وقياس، وكان ابن حنبل كما يقول ابن القيم «شديد الكراهة والمنع بالإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف». وهذا ما أغلق فيما بعد باب الفقه في العصور المتأخرة وأوقع الناس في البدع و الضلالات. أما دلالة الجماعة، فمقامها الإجماع وهي كما ذكر الفرّاء «الإعداد والعزيمة على الأمر». وللعلماء في تعريف الجماعة أقوال عديدة منها: «الأول: أن الجماعة هي: السواد الأعظم من أهل الإسلام، وممن قال بهذا القول أبو مسعود الأنصاري، وعبد الله بن مسعود؛ فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم؛ لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم. الثاني: أنها جماعة العلماء المجتهدين، فمن خرج عما عليه جماعة علماء الأمة مات ميتة الجاهلية؛ وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع في النوازل. الثالث: إن الجماعة هي جماعة الصحابة على الخصوص؛ فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً.» وهكذا يتبين أن المقصود بالجماعة في علم العقيدة هم «الصحابة وعلماء الدين». وبذلك تصبح السلفية أو مذهب أهل السنة والجماعة «الإيمان بكل ما ورد من أفكار وأقوال وأفعال عن الصحابة وعلماء الدين» وهم التابعون بالأثر؛ أثر أصل مصدر السنة، وذلك فيه تقديم للأثر على أصله وهو ما يشغل الخلاف دوماً أصحاب السلفية المصنوعة والسلفية المطبوعة. ويتبين مما سبق أربعة أمور تتعلق بالسلفية أو المذهب الممثل لها وهي: 1 - السلفية مقصود بها كل من ينتمي لمذهب أهل السنة والجماعة وبذلك يخرج منها كل من ينتمي إلى فرقة إسلامية أخرى، في أن هذا الاشتراط للانتماء الفئوي غير صحيح، لأن اتباع سنة الرسول الكريم واجبة لا تشترط لإتمام صحة الإتباع، اتباع الصحابة وسار على نهجهم. 2 - يُختزل مصطلح أهل السنة والجماعة في السلفية، ولذا تُعدّ معادِلاً له، ومع الأيام أصبح الاسم المختصر لمذهب أهل السنة والجماعة السلفية، وهذا فيه تضيّق للاتباع وتوسيع دائرة أتباع البدع والضلالات، لأن حساب البدع ورصدها سيتم تطبيقها على كل من لا يتبع الصحابة ولو كان تابعاً للرسول الكريم. 3 - الصحابة والعلماء الأوائل ومن اقتدى بهم هم من يُشكّل أيقونة أهل السنة، وهذا ما يوقع الفتنة بين المسلمين. لأننا مأمورون باتباع سنّة الرسول الكريم في خصوصيتها قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.. وهذه الآية صريحة لا تُلزم المسلمين بعد طاعة الله إلا طاعة الرسول الكريم من خلال سنته الشريفة، وهي كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من «قول وفعل». وما كان الصحابة ها هنا إلا آلة شرح وتوضيح وتفسير لسنته الكريمة الشريفة، فكيف نساوي بين يقين الاعتقاد بين ما استوجبت طاعته بأمر قدسي وبين الشارح لقول من استوجبت طاعته أمراً جازماً وما يعتري الشرح دون قصد غالباً من نقص وزيادة وهوى وتأويل أو ردة فعل؟ أو نربط شرعية اليقين إيماناً بتحقيق تلك المساواة أو كفراً لإنكار أو مراجعة؟. وعن حديث ابن عباس «ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله». وقال الإمام مالك: «كل يؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذا القبر» ويقصد قبر الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام. وهو برهان أن الصحابة مع تقديرنا لهم طاعتهم ليست ملزمة لتطبيق ما تركوه لنا من أفكار وأقول و اعتقادات فهو ليس قرآناً يُوجب علينا تصديقه؛ لأن رؤية المرء مهما بلغت عظمة تدينه وصلاحه قابلة للقصور، إنها إرادة الله في خلق عباده. أما موضع الفتنة ها هنا فهي الجدوّلة التي رسخها علماء الحديث والفقه قديماً، تلك الجدولة القائمة على معادلة « أن تابع الصحابة وعلماء الفقه ومن اقتدى بهم هو المؤمن الصادق السلفي الذي يدخل دائرة أهل السنة والجماعة، الفرقة المنصورة الناجية من النار.» ومن «يحيد عن فكر الصحابة وعلماء الفقه ومن اقتدى بهم، فهو من الفئة الضالة التي مصيرها النار.» وهكذا أصبحت قاعدة الإيمان الصحيح مرتبطة باتباع الصحابة ومن سار على نهجهم، وهو ما أفضى إليه الأمر الرابع. 4 - قدسية الصحابة وإنزالهم باعتبار أثر الاستصحاب منزلة النبوءة وهو ما يخالف الإسلام أولاً، وثانياً يُشرّع قانون الحصانة الكلية لأي مساءلة فكرية ناقصة أو خطأ غير مقصود، وبذلك فنحن أمام ثيمة تشبه الاثني عشرية عند الشيعة؛ من خلال الصحابة الأئمة المعصومين عن الخطأ. نحن كمسلمين مأمورون باحترام صحابة الرسول الكريم وتقديرهم والأخذ برأيهم متى ما توافق مع سماحة الإسلام وعظمته الحضارية، لا تقديسهم وعبادة أفكارهم وعقائدهم. لقد عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد رضي الله عنهما، خوفاً من افتتان الناس به وتقديسه لبطولاته العظيمة وأعاده إلى صفوف الشعب.. أي أن فكرة ارتباط صحة عقيدة المرء باستسلامه لعقيدة فرد آخر أو مجموعة من الأفراد الصالحين هي فكرة دخيلة على الإسلام السنيّ. مقالات أخرى للكاتب صناعة السلفية (1) المحاصصة الفكرية..«الظلامي والتنويري» (2) المحاصصة الفكرية (1) العرب.. وإيران «الفارسيون الجدد»(1) الديني.. وحرية الفكر

مشاركة :