مسار التيه لم يعد مساري - نجوى هاشم

  • 4/17/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كانت جلسة عفوية.. وغير مرتبة.. أو مخطط لها.. على طاولة طعام.. بعد زيارة مواساة لمعارف.. كنا ست نساء.. اجتمعن صدفة على طاولة بعيدة.. لتناول طعام العشاء الذي امتد لأكثر من ساعة.. وتحول إلى جلسة حوار.. مبهمة وغير مشخصنة.. ولكنها في النهاية تمثل دواخل ليس من كنّ على الطاولة ولكن.. نساء كثيرات.. تخيلن لزمن طويل أنهن يحرثن في الأرض الصالحة.. وسيأتي الحصاد.. واكتشفن أنّ هذه الأرض هي الصحراء.. وأحياناً هي الماء.. الذي يتسرب هو قبل أن يتسرب منه شيء آخر.. غاب الإدراك ليس بفعل التعمد.. ولكن في الغالب بفعل الحب.. ولكن الأهم بفعل الحفاظ على العائلة والأبناء.. وعدم تفتيتها.. أو الصعود بها إلى صهوة المرارة وتركها هناك تعاني الألم والوجع!! في وسط الحوار العادي تساءلت عن غياب صديقة كان يُفترض أن تكون معنا.. لكن الحديث قفز من أخرى إلى مدح شجاعة الصديقة الغائبة وقدرتها على اتخاذ قرار حاسم في حياتها.. حدّد معه المصير الذي تعيش فيه الآن.. ورغم أنّ كل المجموعة كنّ مرتبطات ومستقرات كما تبدو الصورة.. إلا أنهن دافعن عن قرار "س" الغائبة.. في خلع زوجها.. وقدرتها على ذلك بعد عشرين سنة زواج.. و أبناء.. قالت واحدة.. لم يتوقع أحد منّا أن تتخذ "س" قراراً كهذا وبحسم ومنفردة رغم كل ما قيل لها ممن حولها من الأهل والأصدقاء بأن استمراريتها معه سوف تقضي عليها وستحمل الأبناء فوق طاقتهم من الهموم والمشاكل اليومية التي كان الأب هو الممول لها.. بعد أن تخلى عن مسؤولياته كاملة وتركها لها من رعاية ومصروف وتربية.. وتفرغ لنزواته.. وحياته.. إضافة إلا أنها منحته فرصاً عديدة للعودة للمنزل.. وتحمل مسؤولياته.. زرع في داخلها الخوف.. وحرمها وأبناءها من الاستقرار.. وبدلا ًمن أن يمنح الأسرة الحماية.. منحها القلق.. وباعد بينها وبين الحياة الإنسانية التي يعيشها من حولهم.. فكر في نفسه فقط.. وكانت سفينة الأسرة كلما تعرضت للغرق يكون منها أول القافزين.. لا يقف فقط على الشاطئ ليراقب ماذا حل بهم؟ ولكن يهرب ويتوارى غير عابئ.. بما كان وهل ظلوا أحياءً أم ابتلعتهم المياه؟ قالت واحدة.. من الصعب أن تكرر الثقة في شخص تخلى عنك عدة مرات.. قد تثق فيه مرّة أو ثلاث ومع الأبناء.. قد تصل إلى عشر.. لكن في لحظة تكتشف أنك استنفدت كل الفرص التي لديك ولم يعد بإمكانك أن تنمحه فرصة أخرى! كانت حياة " س"فصولاً مؤلمة من الوجع والألم اليومي لكن ما كان يسندها هو الحب.. وما أقساه عندما يقذف بنا في أحضان من لا يستحقه أو يقدّر قيمته.. بدت وكأنها امرأة ضعيفة قيّدها الحب.. والعشرة والأبناء والحفاظ على الأسرة التي طالما قاتلت من أجل أن تبقى على أطراف الريح ولا تعصف بها.. عشرون عاماً وهي تحارب على كل الجبهات.. لتبقي جبهة المنزل مفتوحة.. كان البيت يمثل لها التحدي الأكبر.. حافظت عليه بقدرات لم تكن تتخيل أنها تمتلكها.. عبرت بفترات شعرت فيها بأن الوجع قد أثقلها وأنّ الألم قد تجاوزها.. وأنّ قلبها قد تحول إلى مسار التيه وعدم معرفة ماذا تفعل..؟ وقف معها الآخرون كثيراً ولكنها في كل مرّة كانت هي من يتخذ قرار البقاء.. وفي لحظة فاصلة قررت.. سألتها لماذا عندما التقينا منذ شهور: قالت: شعرت بأن آيامي تسربت من بين أصابعي.. وكلما التقطت يوماً وقبضت عليه معه.. تسرب كالماء.. أراه ولكنه لا يمكن أن أقبض عليه.. كانت كل الحلول التي اتخذتها مجرد تسكين للوجع لكن الوجع ظل كما هو وزاد أنه تسرب في عظامي.. وتنقل بين ضفاف روحي وهذا هو الأقسى والأكثر مرارة.. عندما يغتال أحد روحك ومشاعرك.. شعرت أنني وصلت للحظة أحتاج فيها إلى مرحلة تأهيل نفسي وهو الأصعب.. خفت على أطفالي من مرارة الكراهية ووجعها.. وتخزينها في ذاكرتهم.. فقررت أن أجنّبهم وأجنّب نفسي باقي العمر وجع الكراهية وتبادلها ليس معه بل مع الآخرين.. خلعته.. ولكنني لم أكرهه.. هذا لا يعني أنني أحبه.. ولكن انتهت مرحلة موجعة من حياتي.. وبدأت مرحلة جميلة مع الأبناء وتربيتهم في هدوء ومحبة وتواصل معه ولكن ظل هو كما هو لم يتغير.. ولم يحاول الاستحواذ على حب أطفاله!! قالت صديقتي: السؤال هو كيف يصل الإنسان إلى مرحلة الحسم في أمور مصيرية لم يكن يتوقع أحد أنه يستطيع أن يفعلها؟ قلت: عندما يقرر تحمّل مسؤولية قراره وحده وما سوف يترتب عليه.. وعندما يغادر المناطق الرمادية ذات الحلول قصيرة المدى.. وعندما يصل إلى القناعة بأن الحياة وجدت لنعيشها في سلام.. لا لنتعذب داخلها!!

مشاركة :