عندما يعترف العبقري بالعبقري الآخر يصدر في اعترافه هذا عن نبل. ذلك أن الكثيرين تضيق صدورهم بالآخر المتفوق فلا يضمرون له سوى أحط المشاعر. ولكن التراث العربي الإسلامي حفظ لنا صفحات جليلة عن الودّ الصافي بين الأدباء الكبار ليس كمثلها صفحات في الاعتراف بهذا الآخر وتوقيره. من أشهر هذه الصفحات صفحة المعري والمتنبي. فقد كان المعري معجباً إعجاباً لا حدّ له بالمتنبي لدرجة أنه سمى ديوانه «معجز أحمد»، كما وقف فترة من حياته على شرحه. ويعتبر شرح المعري لديوان المتنبي من أوفى الشروح التي أصابت ديوان أبي الطيب، وما أكثرها. وكان المعري إذا ذكر في مجالسه: «وقال الشاعر» فهم القوم أنه يقصد المتنبي لا سواه. بل انه اعتبر مرة أن إشارة المتنبي في قصيدة له إلى «الأعمى الذي نظر إلى أدبه» في تنبوّء مسبق وافتخار بشعره، إنما هي إشارة إليه هو بالذات. فالمتنبي قصده عندما قال في قصيدة له: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي».. إلى هذه الدرجة بلغ إعجاب المعري بالمتنبي. وإلى درجة مماثلة لهذه الدرجة بلغ إعجاب أبي حيان التوحيدي بالجاحظ الذي سبقه في الزمن وانتفع بعلمه أيما انتفاع وتحدث عنه حديث مريد عن شيخه، أو عن أحد شيوخه، في حين أن مكانة التوحيدي في زمانه، وفي التراث العربي الإسلامي بوجه عام، لا تقل عن مكانة الجاحظ. فالاثنان من أعلام النثر والفكر في تراثنا، ومع ذلك فقد كان التوحيدي منبهراً بالجاحظ في حين أنه كان بإمكانه أن يتجاهل دوره وفضله، أو أن يبغضه ويكرهه كما هي شيمة كثيرين من الأدباء.. فكأن الأصل في علاقات الأدباء ببعضهم البعض هو التنابذ والتحاسد، وليس الصفاء والوئام. وفي سيرة التوحيدي أنه عندما أراد أن ينهل من منابع الثقافة اعترف أولاً، وبغزارة، من مؤلفات الجاحظ. فقد وجد فيها من تنوع الموضوعات، ومتعة التشويق، واتساع دائرة المعارف، مع الوعي والنفوذ إلى المعاني، والقدرة على تطويع اللغة لأغراض الجدّ والهزل، والمخاطبة والجدل، ما دفعه إلى اقتباس الكثير من فقراتها في كناشة التي قضى في تصنيفها زمناً امتد من سنة هجرية حتى سنة هجرية سماها «البصائر والذخائر»، مستوحياً هذا العنوان من مضمون أدب الجاحظ نفسه. ويظن بعض الباحثين أن أبا حيان كتب في ذلك العهد رسالته «تقريظ الجاحظ» التي لم يبق منها إلا الصفحات التي حفظها ياقوت من الضياع في «معجم الأدباء». ويطلق أبو حيان العنان لاعجابه بشيخه الجاحظ فيقول في مقدمة «البصائر»، هو يستعرض المؤلفات التي أفاد منها: «جمعت هذا كله في هذه المدة الطويلة من كتب شتى، ككتب عثمان بن بحر الجاحظ، وكتبه هي الدرّ النثير، واللؤلؤ المطير، وكلام الخمر الصرف، والسحر الحلال»! وهذه الفقرة تدل على افتتان المريد بشيخه، لا على مجرد إعجاب كاتب بكاتب آخر. وفي «الليلة الرابعة» من «الامتاع والمؤانسة» حين يريد أبوحيان الازدراء. بالوزير البويهي ابن العميد، يقول: «أول من أفسد الكلام أبو الفضل (ابن العميد)، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظن أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه فوقع بعيداً من الجاحظ، قريباً من نفسه. ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبّر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد: بالطبع والمنشأ، والعلم والأصول، والعادة والعمر، والفراغ والعشق، والمنافسة والبلوغ. وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد». ألا يرجع هذا الإيثار إلى عمق التجاوب بين أبي حيان والجاحظ؟ والحق أن قارئهما اليوم يدرك تشابههما الشديد في الفكر وفي الفن حتى لينسى افتراقهما في الزمان على بعد قرن ونصف قرن. وأبو حيان الحريص على الموضوعية يوثق إعجابه الحميم بالجاحظ فيسجل في صدارة تقريظه شهادة ثابت بن قرة الذي كان يعد الجاحظ من مفاخر العرب، ويقول عنه: «كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة.. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتناديه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلّم له، والعامة تحبه. جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم». تلك هي المطامح التي كان أبو حيان يصبو لبلوغها. ونلمس من القيم التي يستند إليها في تعليقه ما يعكس صورته الشخصية في مرآة الجاحظ. فهو يطنب في اعتزازه بوجهة نظر ابن قرة لأنها نظرة خارجية، و«قول صائبي» لا يدين الإسلام: «قد انتقد هذا الانتقاد، ونظر عنها النظر، وحكم هذا الحكم، وأبصر الحق بعين لا غشاوة عليها من الهول (خوف النقد) ونفس لا لطح (لوث) بها من التقليد، وعقل لا تحيّل بالعصبية». بهذا الإلحاح يبرز أبو حيان رأي المثقف الصائبي الذي يعلو فوق كل الحواجز الطائفية، ويشيد بفضل المثقف المسلم الذي شملت كتبه معارف الإنسان، فأصبح أدبه ملتقى الناس على اختلاف مشاربهم. وعلى مفاهيم التنوير والموسوعية ومكافحة التعصب سوف يتبلور في التاريخ الحديث فكر جماعة الفلاسفة الذين سيفجرون الثورة الفرنسية ومعلني حقوق الإنسان. نتعرف على كل هذه العناصر في كتابات الجاحظ وأبي حيان، بينما لم يكن نظام المجتمع في عهدهما من الإحكام بحيث يخطط للثورة، وبحيث يضرم جمهور المقموعين مشاعلها. إن علاقة أبي حيان بالجاحظ كما يصفها أحد الباحثين موضوع مركزي في تاريخ الثقافة العربية، جدير بدراسة وافية تستقصي مدارات اهتماماتهما الفكرية المشتركة ودواعي تجاوبهما النفسي. وفي مجلة المجلة المصرية نجد باحثاً أجنبياً هو مارك برجيه يتحدث عن هذا الاعجاب الخارق للتوحيدي بالجاحظ في دراسة حملت العبارة التالية المعبرة: «بنوة التوحيدي الأدبية للجاحظ». وتعبّر السطور التالية للجاحظ، من «رسالة المعاش والمعاد عما يشعر برابطتهما الوثقى: «ولم أزل - أبقاك الله - بالموضوع الذي عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها. ومعلوم أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.. وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن. وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك».
مشاركة :