بالنظر لاعتماد فوكارو على مصادر تاريخية محلية فقط مثل لؤلؤة البحرين ليوسف بن أحمد البحراني (ت ١٧٦٥م)، وأنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين لعلي بن حسن البلادي (ت ١٩١٩م)،(56) فهي تؤسس في ضوء ذلك لرؤية تاريخية مفادها أن جل سكان البحرين، إن لم يكن معظهم، من الشيعة الفلاحين الذين يقطنون بلدات وقرى البحرين الريفية، أي أنه لا وجود لبحرينيين أو سكان آخرين، من غير البحارنة، يعيشون في داخل أو خارج تلك البلدات والقرى الفلاحية. وعليه فإن فوكارو تأخذ بمرويات يوسف البحراني وعلى البلادي كما وردت، أي دون مقارنتها بمصادر أخرى معاصرة لها. وهكذا أخذت فوكارو تلك المرويات التاريخية بصفتها حقائق تاريخية مطلقة. اللافت للنظر أن بعض المصادر التاريخية غير التقليدية، مثل الوثائق والمخطوطات الأوروبية مثل الهولندية والبرتقالية كالتي تم الكشف عنها حديثاً في أرشيفات تلك الدول،(57) وكذلك بعض الوثائق والمخطوطات العربية المحلية والعثمانية التي كُشف عنها مؤخراً، بدأت تلقي ضوءاً على تلك العقود من تاريخ البحرين بصورة مغايرة عن مرويات يوسف البحراني وعلى البلادي.(58) هناك إشكالية أخرى لا بد من التوقف عند عتباتها، بقدر كبير من الموضوعية والتجرد، أي من حيث أثر التكوين الديني والانتماء العقائدي والفكري لرواة محليين مثل يوسف البحراني وعلى البلادي على مروياتهم التاريخية للأوضاع وللحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية التي كانت سائدة في البحرين خلال القرن السابع عشر، أي قبل عام ١٧١٨م، وهو عام الدخول الأول للقوات العُمانية الإباضية جزر البحرين.(59) إن الصورة التي لدينا أن هناك مواقف مذهبية عدائية بين أئمة وعلماء الدين في كلا المذهبين، أي الشيعة والإباضية، بل انعكس ذلك العداء على الصراع والحروب التي خاضتها عُمان ضد الدولة الصفوية، الشيعية المذهب، وقواتها البحرية في الخليج. لذا لم يكن بمستغرب أن ينعكس ذلك العداء والصراع على تلك المرويات التاريخية، سواء لجهة تصوير الحال التي كانت عليه قرى وبلدات البحرين، من حيث رواج وازدهار النشاط الديني لرجال الدين الشيعة وحرية سفرهم وتنقلهم بين مدن وموانئ الخليج العربي، وذلك طوال سنوات النفوذ الصفوي على البحرين. إن الباحث المدقق يتساءل هنا: عن مدى موضوعية الحديث عن اتسام كل الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية بالازدهار والرقي؟(60) تنطلق فوكارو من الوصف الذي قدمه الرحالة البرتقالي بيدرو تيخسيرا عن وجود زراعة نشطة للقمح والشعير في البحرين في بداية مرحلة الصفويين،(61) لترجح بعد ذلك احتمال أن يكون قد ترتب على ذلك قيام الصفويين بفتح أسواق جنوب إيران أمام السلع الواردة من البحرين مثل التمر واللؤلؤ، مما ترتب عنه برأيها انتعاش اقتصاد التصدير في جزر البحرين!!(62) برأينا أن هذه واحدة من الأمثلة التي تظهر إخفاق فوكارو في تقديم قراءة موضوعية لوقائع تلك القرون، لذا نجدها تذهب إلى تصوير الحال آنذاك على أنه كان ينم عن حالة من الرخاء والاستقرار، وذلك باعتبارها الصفة العامة للحالة التي كانت عليها الأوضاع في البحرين خلال عقود الاحتلال الصفوي لها.(63) للنظر إذاً إلى مدى صحة هذه الخلاصة. إن الحقائق التاريخية المعروفة، وأخرى تم تقديم تفسيرات حديثة بشأنها، مثل اجتهادات جوان كول في دراستها المعروفة عن تلك القرون، تظهر لنا أمرين في هذا الصدد: الأمر الأول، أن رجال الدين الشيعة في البحرين، خلال تلك العهود، قد جمعوا بين الإمامة والتجارة، خاصة تجارة اللؤلؤ، وقد أقاموا حلفاً واسعاً مع بقية التجار والأعيان أظهروا من خلاله ولاءً صريحاً وواضحاً لشاهات الدولة الصفوية ووكيلها في البحرين، وإطاعة مطلقة لسلطة الشيخ الرئيس وهو أعلى سلطة دينية في البحرين يتم تعينه من قبل الشاه. كما تم إظهار ذلك الولاء من خلال التخلي الظاهر والعلني عن المدرسة الأخبارية في الفقه الجعفري وتبني فقه المدرسة الأصولية، السائدة رسمياًّ في إيران الصفوية آنذاك؛ هذا وقد ظلت هذه المدرسة الأصولية مهيمنة على الحياة العامة والدينية لشيعة البحرين حتى سقوط الدولة الصفوية، حتى أخذت المدرسة الأخبارية تعاود الظهور ثانية مع نهاية القرن الثامن عشر. (64) ماذا كان ثمن تلك التحولات الدينية والسياسية بين علماء وأعيان الشيعة في البحرين خلال عقود الاحتلال الصفوي (١٦٠٢-١٧١٧م)؟ لقد ترك حكام الدولة الصفوية لأولئك العلماء والأعيان حق التصرف في الخُمس، وأي إتاوات وضرائب يتم جبايتها من التجارة والزراعة في البحرين، وذلك نظير ذلك الولاء الديني والسياسي. (65) أما الأمر الثاني الذي يثير التساؤل، فهو حول مدى حاجة أسواق جنوب إيران لمنتجات زراعية تردها من البحرين. برأينا أن لدى أسواق فارس بجنوب إيران ما يكفيها من نتاج محاصيلها الزراعية، بل كانت هي تصدر الكثير منه إلى دول أخرى كالهند، مثل التمر وغيره. أما الأمر الثالث الجدير بإمعان النظر فيه، فهو مدى تحقق الرخاء والاستقرار خلال الاحتلال الصفوي للبحرين، خاصة إذا ما علمنا أن البحرين قد تعرضت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى حملات من الغزو الخارجي، والحروب الطاحنة بين القوى الإقليمية المحلية آنذاك، فكان هناك البرتقاليون والصفويون واليعاربة والهولة، من آل حرم وآل مذكور، والعتوب؛ السؤال إذاً كيف لنا أن نستخلص أن البحرين كانت قد شهدت خلال تلك الفترة الرخاء والاستقرار السياسي والاقتصادي الذي ذهبت فوكارو إلى إبرازه في مقدمة عملها؟ جديرٌ بالذكر أن الربع الأول من القرن الثامن عشر يعتبر بمثابة الحقبة التي شهدت أفول الدولة الصفوية، حيث شهدت سقوطاً مدوياًّ من جراء فساد وبطش حكامها، من جهة، واحتلالها من قبل العثمانيين الأتراك، من جهة ثانية، والأفغان، من جهة ثالثة، والروس من جهة رابعة. فعلى حد رأي أحد أبرز المتخصصين في التاريخ الإيراني الحديث، مايكل أكسورثي: تعتبر العشرينيات من القرن الثامن عشر عقداً مزرياً بالنسبة لغالبية الفرس ... فقد تواصل الاقتتال بين المحتلين لإيران، كما شهد الاقتصاد تدهوراً كبيراً قاد إلى حالات مريرة من الشدة والمعاناة. (66) خاتمة: أظهرت فوكارو تفوقها كباحثة تشق طريقها في الكتابة التاريخية عن مجتمعات الخليج العربي، وذلك من خلال الاعتماد على مصادر غير تقليدية استطاعت من خلالها تجاوز الوجل والشكوك التي يرددها الباحثون التاريخيون عن المنطقة، خاصة لجهة ندرة المصادر التاريخية. فهي لم تتجاهل الكشوفات الأثرية أو الحكايات الشعبية، مثلما لم تغفل الخرائط والصور التاريخية، وأهم من كل ذلك الأرشيفات الخاصة في البحرين، من التي لم تكن متاحة للباحثين حتي سنوات قليلة مضت. لقد مكنتها بعض الأرشيفات، الرسمية والخاصة، المدونة بالعربية وأخرى بالفارسية، وكذلك التاريخ الشفاهي الذي استطاعت تدوينه خلال زياراتها الميدانية المتعددة، كل ذلك في إطار سعيها لاستكمال صورة شاملة لتاريخ المنامة. كما أوضحنا في مقدمة هذه المقالة فإن المنهج الشمولي المبني على توليفة ثلاثة من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي تحديداً: التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا، قد مكنت فوكارو من استجلاء مسيرة تاريخ امتاز بعمق زمني طويل؛ تذكرنا هذه المنهجية بالكتابات التاريخية لمدرسة الحوليات الفرنسية، خاصة تجارب فرناند بروديل وزملائه وطلابه في هذا الخصوص. نلاحظ هنا إذاً أن فوكارو قد سعت إلى تقديم تاريخ وجغرافيا المنامة بدءاً من نهاية القرن الثامن عشر، أي بعد مرور سنين ليست بقليلة على رحيل البرتقاليين الذين تركوا بعض تحصيناتهم في قلعة البحرين، على أن المنامة التي تناولتها المؤلفة هي نتاج نظام قبلي استمد معالمه وهويته السياسية والمكانية من موطنه الأصلي، أي من الجزيرة العربية. وهكذا فإن المنهج الذي اتبعته فوكارو في دراسة هذا العمق الزمني الطويل قد مكنها من رصد العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البنية الاجتماعية والحضرية لمدينة المنامة ومؤسساتها الاجتماعية، وعليه فإن الكاتبة قد استطاعت الإمساك بتلك التحولات والنظر إليها باعتبارها مؤشراً على العلاقات ما بين الجماعات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع وتشكل الدولة بعيداً عن أي دلالات غائية. إن أي قارئ متعمق للكتاب سيجد نفسه، وهو يطوي صفحات الفصول الأخيرة منه، أنه بصدد عمل بحثي امتاز بتعدد سردياته التاريخية التي حاولت الكاتبة نسجها عن مدينة المنامة، فنحن إذاً أمام أكثر من تاريخ وحكاية متقاطعة حاولت فوكارو لفت أنظارنا إليها. وعليه فإن المنامة منذ القرن التاسع عشر يعد نتاج أصوات سردية متعددة سعت من خلالها المؤلفة إلى الكشف عنها وذلك بهدف إظهار غنى التجربة الإنسانية للجماعات والفئات والنُخب الاجتماعية التي تقاسمت العيش في تلك الأحياء السكنية التي تشكلت منها المنامة خلال تلك الحقبة التاريخية. لقد استطاعت فوكارو أن تستوعب جيداً الدروس المستفادة من جراء النقد الذي وجه خلال ثمانينيات القرن الماضي للكتابات التاريخية والأنثروبولوجية والجغرافية وذلك لجهة عدم إحاطة باحثي تلك العلوم الاجتماعية والإنسانية بالسياق الإقليمي والدولي للمجتمعات والثقافات التي تولوا دراساتها، لذا فإن من مظاهر استيعاب فوكارو لذلك الدرس الحرص الشديد الذي أظهرته في تناولها لتاريخ مدينة المنامة، وذلك من خلال إعادته للسياق التاريخي والاجتماعي المحلي للبحرين والإقليمي للخليج، وأخرى ذات علاقة بنطاق السيطرة الكولونيالية البريطانية ونشاطها التجاري والسياسي في الخليج والمحيط الهندي وتأثيرات ذلك على نشوء مُدن الموانئ الخليجية؛ وكثيراً ما عكست تلك التطورات طبيعة نطاق النظام العالمي وتوسعاته الإقليمية. الهوامش (56) البحراني، يوسف بن أحمد، لولؤة البحرين: في الإجازات وتراجم رجال الحديث، ٢٠٠٨. البلادي، علي بن حسن، أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، ١٩٩٤. (57) من نماذج توظيفات تلك الأرشيفات، راجع مؤلفات الباحثين الهولنديين والبرتقاليين مثل وليم فلور وريدر فيسر وبن سلوت وجاو تيلس كونها، راجع: Floor, W., The Persian Gulf: The Rise of the Gulf Arabs: The Politics of Trade on the Persian Littoral 1747-1792, (2007). Floor, W., The Persian Gulf : A Political and Economic History of Five Port Cities, 1500-1730, (2006). Visser, R., Basra, the Failed Gulf State: Separatism and Nationalism in Southern Iraq, (2005). Slot, B. J., The Arabs of the Gulf, 1602-1784: An Alternative Approach to the Early History of the Arab Gulf States and the People of the Gulf, Mainly Based on Sources of the Dutch East India Company, (1995). Cunha, J. T. e., The Portuguese Prsence in the Persian Gulf, (2009). (58) من بين هذه التوظيفات الحديثة، نذكر الآتي منها: الأنصاري، جلال خالد هارون، تاريخ عرب الهولة والعتوب،٢٠١١. زين العابدني، بشير، البحرين وعلاقاتها الخارجية إبان القرن السادس عشر، ٢٠٠٩. سلمان، محمد حميد، مملكة الجبور، وعلاقات البرتقاليين بالقبائل العربية الخليجية، ٢٠١١. الخالدي، خالد بن عزام بن حمد، وإيمان بنت خالد الخالدي، السلطنة الجبرية في نجد وشرق الجزيرة العربية: دراسة سياسية حضارية، ١٤١٧-١٥٢٥م، ٢٠١١. العتيقي، عماد بن محمد، وجود آل خليفة والعتوب في الأحساء من خلال الوثائق المحلية، ١٤٣٤هـ. الحادي، بشار يوسف، الجذور التاريخية لسكان البحرين: رؤية نقدية، ٢٠١٣. (59) راجع تناولنا لهذه الملاحظة النقدية بتفصيل دراستنا غير المنشورة: شتات البحارنة: بين الواقع والخيال. (60) لعل من نماذج تلك المبالغات في المصادر القديمة ما أوردته الباحثة الفرنسية مونيك كيرفران نقلاً عن الملاح العربي أحمد بن ماجد، الذي وصف البحرين بأنها تضم ثلاث مائة وستين قرية!! هذا وقد تكررت تلك التقديرات الخاطئة والمبالغات غير المبررة في مصادر لاحقة مثل: يوسف بن أحمد البحراني، ومحمد علي التاجر، وناصر الخيري، ومحمد بن خليفة النبهاني، راجع رأي كل من الباحثين مصطفي بن حموش وبشار يوسف الحادي في تلك المبالغات: بن حموش، مصطفى، خطط مدينة المنامة: التحولات العمرانية بالمدن الخليجية، ٢٠٠٩، ص ٤١. الحادي، بشار يوسف، الجذور التاريخية لسكان البحرين: رؤية نقدية، ٢٠١٣، ص ٣٦. كيرفران، مونيك، البحرين في القرن السادس عشر: جزيرة حصينة، ٢٠٠٤، ص ٩. (61) Teixeira, P., (1902), pp. 174-175. (62) Fuccaro, N., Histories of City and the State in the Persian Gulf: Manama since 1800, (2009), p. 16. (63) نفس الصدر، ص ١٦-١٩. (64) Cole, J. R., Rival Empires of Trade and Imami Shiism in Eastern Arabia, 1300-1800, (1987), pp. 186-194. (65) نفس الصدر، ص١٨٩-١٩١. (66) Axworthy, M., Iran: empire of the mind : a history from Zoroaster to the present day, (2008), pp. 152-153. الدكتور/ عبداللـه عبدالرحمن يتيم مركز دراسات البحرين ـ جامعة البحرين www.abdullahyateem.com المصدر: الدكتور/ عبداللـه عبدالرحمن يتيم
مشاركة :