جدير بنا والبحرين تتخطى محنة فبراير وتزيح عن وجهها غبار الفوضى الخلاقة التي صنعتها قوى دينية وسياسية أقل ما يقال عنها عدم قرأتها المتأنية لتاريخ البحرين المعاصر ومكوناته الاجتماعية، أي الجذور الاجتماعية والتاريخية لتلك المكونات. إذا ما أتفقنا على أن المكونات الاجتماعية الكبرى التي يتشكل منها المجتمع البحريني، هي: العرب السنة، والبحارنة، والعجم،(1) إذاً حرياً بنا أن نتوقف أمام بعض من الجذور الاجتماعية والتاريخية للمكون الأول العرب السنة، على أن نأتي في مقالات قادمة لنلقي الضوء على بعض من جذور المكونات الاجتماعية الأخرى، وذلك حتى نتلمس بواقعية شديدة دور هذه المكونات في التاريخ المعاصر للبحرين. علي بن إبراهيم الزياني لنأخذ على سبيل المثال بعض البيوتات، مثل عائلتي الزياني ويتيم، بصفتهما نماذج لـ الوسطاء الثقافيون، نعلم جيداً الدور البارز الذي لعبته شخصيات بارزة في هذه العائلة مثل: الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني (ت 1925م)، وعبدالرحمن بن محمد الزياني (ت 1941م)، وعبدالرحمن بن عبدالوهاب الزياني (ت 1977م)، إلا أن هناك شخصيات أخرى من هذه العائلة لعبت أدواراً لاتقل أهمية، إذ إمتلك الوجيه علي بن إبراهيم الزياني (ت 1929م) علاقات واسعة ووطيدة مع تجار اللؤلؤ من الأوروبيين، مثل: فيكتور أدولف، وروزنتال، وموريس كارتييه، ومسيو حبيب، ومسيو بايك. كما كان علي بن إبراهيم الزياني وكيلاً للتاجر الألماني مستر دالكوس، الذي أستورد على سبيل المثال من الزياني عام 1901م ما بين 6000-10000 جونية (كيس) من الصدف بسعر روبيتين ونصف للكيس الواحد. هذا ويمتد دور علي الزياني إلى الحياة العامة في البحرين فينشأ أول مدرسة نظامية على نفقته الخاصة في مدينة المحرق، حوالي عام 1917م، كما يبعث بأبنه محمد بن علي بن إبراهيم الزياني (ت 1936م) للدراسة في الهند، ويختار هذا الأخير الإقامة في مدينة بومبي، وكذلك إبنه جاسم الذي ظل في بومبي حوالي أربعون عاماً إلى أن توفي هناك. وقد إنتقل هاجس التعليم إلى محمد الزياني الذي قام بإلحاق إبنته فاطمة بأحدى الكليات في العراق لدراسة التمريض، وإبنه إبراهيم لدراسة الصيدلة في الهند. هذا ويعود الفضل لإبراهيم بعد ذلك في إنشاء دور للسينما مثل دار سينما الوطني وسينما الأهلي، وكان إبراهيم قد عمل بعد عودته من الهند صيدلياً في مستشفى النعيم ومستشفى أرامكو بالظهران. أحمد بن علي يتيم للننتقل الآن لعائلة يتيم حتى نرى دور أعيان هذه العائلة من خلال رصد دور الوجيه أحمد بن علي يتيم (ت 1921م)، فقد عُرف عن أحمد بن علي يتيم تنوع مصادر تعليمه وثقافته، مما جعلت منه مداوماً على الصحف العربية والإنجليزية التي كانت تصله من بوشهر، كما أنه ألحق أبنائه، علي ومحمد، في عام 1902م بمدرسة الإرسالية التبشيرية الأمريكية، وكانو بذلك من الدفعة الأولى التي التحقت بهذه المدرسة. بعث أحمد بن علي يتيم بإبنائه بعد ذلك للدراسة بالخارج، فقد إلتحق علي في عام 1908م بجامعة عليكرة بالهند، أما شقيقه محمد فقد توجه للدراسة بالجامعة الإمريكية في بيروت في 1914م. وكان من بين الأدوار التي لعبها الوجيه أحمد بن علي يتيم عضويته في المجلس العرفي، فقد عينه الشيخ عيسى بن علي في عام 1912م عضواً في هذا المجلس المكون من عشرة أعضاء، وكان المجلس مختصاً بالنزاعات التجارية، وظل أحمد يتيم عضواً بالمجلس حتى عام 1919م. وقد حاولت بريطانيا عبر وكيلها السياسي في البحرين الحد من دور المجلس ومن صلاحيات حاكم البحرين، الشيخ عيسى بن علي، في إختيار أعضائه. كما شارك أحمد يتيم عدد آخر من الأعيان في عام 1918م التوقيع على عريضة رفعت للشيخ عيسى بن علي يطالبون فيها بموافقته على إنشاء بنك. لنلقي هنا مزيداً من الضوء على أبناء هذا الوجيه (علي ومحمد)، وذلك حتى نتعرف عن قرب على دور هذه النخبة التجارية في النهضة الحديثة. لنأخذ علي أحمد يتيم (ت 1927م)، وهو بالمناسبة والد الوجيه حسين بن علي يتيم (ولد 1912م)، الذي إلتحق بمدرسة الإرسالية الأمريكية عام 1902م، ودرس إنذاك على يد المبشر المعروف القس صموئيل زويمر، ثم بعث به والده إلى جامعة عليكرة في الهند لدراسة الصيدلة عام 1908م. عاد علي من الهند عام 1910م ليفتتح أول صيدلية صيدلية يتيم، وقد أستمر في تطبيب الناس وتقديم الخدمات العلاجية حتى وفاته في عام 1927م. وقد أعتُمدت صيدليته كمركز لتصنيع الأدوية والوصفات لمستشفى الإرسالية الأمريكية، وكذلك إستيراد الأدوات واللوازم الطبية. تنقل علي يتيم في دوره التجاري والاجتماعي من إستيراد وبيع السيارات الأوروبية والأمريكية، مثل سيارات فيات وجنرال موتورز إلى الدراجات الهوائية التي باع أحداها لدار الاعتماد البريطانية عام 1926م. ثم إنتقل إلى تأسيس شركة مساهمة للمواصلات العامة مع صديق عمره الوجيه خليل بن إبراهيم كانو، ثم ليؤسس في عام 1926م أول شركة في البحرين باسم شركة مقاولات للهندسة والبناء مع شريك هندي يدعى محمد غوث، حيث تولت الشركة بناء قصر الشيخ حمد بن عيسى آل خليفية بالقضيبية، حيث تم الإنتهاء منه عام 1927م، وكذلك تشييد بيت المستشار شالرز بلغريف، وأيضا الواجهة الشمالية المطلة على فرضة المنامة. كما إمتد دور على يتيم التجاري والثقافي ليشمل إستيراده للسوق المحلية آنذاك ما كان يعرف بأدوات العصر، مثل: الآت التصوير الضوئي، والغرامافون، والمناظير، والطواحين الهوائية لضخ المياه. كما إنتقل لتشيد مصنع للثلج عام 1926م؛ وكان قد شيد قبل ذلك، أي في عام 1921م، أول مبنى نصب عليه ساعة ميدانية عامة، حيث ظلت تعمل حتى عام 1980م. كان الدور الاجتماعي والسياسي الأبرز لعلي بن أحمد يتيم هو عضويته في مجلس بلدية المنامة، حيث أنتخب عضواً بالمجلس عام 1923م، ثم ليعاد إنتخابه مرة أخرى عام 1927م، أي عام وفاته. وكان ممثلاً مع أعضاء أخرين عن جماعة العرب، وذلك حسب قانون البلدية آنذاك، وقد إنتخب بديلاً عنه الوجيه علي بن إبراهيم كانو عام 1928م. لنعود الآن إلى الإبن الثاني لأحمد بن علي يتيم، ألا وهو محمد، فقد كان الإبن الاصغر، حيث ولد في عام 1898م وإلحق مع أخيه علي بمدرسة الإرسالية الأمريكية، وبينما توجه شقيقه الأكبر إلى جامعة عليكرة في الهند، أتجه هو إلى بيروت عام 1914م ليلتحق هناك بالجامعة الأمريكية وذلك خلال الحرب العالمية الأولى، ولكن كان حظ محمد عاثراً إذ لم يستطع إنهاء تعليمه وذلك بعد أن القت السلطات العثمانية القبض عليه في بيروت بطريق الخطأ، بسبب وثائق سفره البريطانية، وقد عاد مضطراً إلى البحرين بعد تدخل من قبل حاكم البحرين. عُرف عن محمد سعة إطلاعه وشخصيته المنفتحة وأيضاً الكزموبوليتية الطابع، وكذلك ميله للسفر والمغامرة التجارية وصراحته في التعبير عن أفكاره، تلك الأفكار التي كانت تتصف بالانفتاح والجرئة في الطرح، وقد أدهشت شخصيته شالرز بالغريف وذلك عندما التقى به في العام الأول لوصوله إلى البحرين، 1927م، في أحدى حفلات الاستقبال التي كانت تقيمها دار الإعتماد البريطانية في البحرين، لقدأدهشته شخصيته وطلاقته في اللغة الإنجليزية. عندما قدم ميجر فرانك هولمز إلى البحرين عام 1922م، أرتبط بعلاقة وثيقة بأبناء أحمد يتيم، على ومحمد، مما ترتب عليها قيام شركتهما بتصريف وإدارة أعماله في البحرين والخليج، وكذلك قيام محمد شخصياً باعمال الترجمة وترتيب لقاءاته مع حكام وشيوخ الخليج، وسكنه وتنقلاته في البحرين وخارجها، وهكذا أصبحت شركة علي ومحمد يتيم الوكيلة المعتمدة لـ الشركة الشرقية والعامة المحدودة في الكويت وذلك إعتباراً من عام 1926م. واصل محمد يتيم دوره كذلك وسيطاً بين هولمز، باعتباره ممثلاً لـ الشركة الشرقية، والشيخ عيسى بن علي في إشتراط حفر آبار إرتوازية للمياة مقابل حصوله على إمتياز حفر آبار للنفط، وعليه فقد منحهُ في عام 1925م الشيخ حمد بن عيسى أول إمتياز للتنقيب عن النفط في الخليج العربي.
مشاركة :