توالي الأحداث و «الزلازل» السياسية والأمنية في المنطقة العربية، صرف الأنظار عن قضايا حياتية خطيرة تستدعي الوقوف عندها قليلاً ولو من باب التنبيه والتحذير، لأنها تمس مجتمعاتنا وقيمنا وتهدد الأجيال الصاعدة وتطاول تداعياتها وانعكاساتها وأخطارها الأطفال والمراهقين بصورة خاصة. إنها قنابل موقوتة موجودة في كل بيت من بيوتنا، بل في كل غرفة لا بد أن تنفجر يوماً لما تحمله من أخطار وما تفرضه من متغيرات في العقليات والنفسيات وسبل العيش ووسائل التواصل العائلي والاجتماعي. ففي الوقت الذي نتلهى بأخبار القتل والدمار وتنقسم المجتمعات إلى قبائل متناحرة وطوائف متناحرة ومذاهب معرضة لنشوب فتنة كبرى، نشهد في العالم كله، وخصوصاً في الغرب، صرخات تدق ناقوس الخطر وإجراءات لدرئه، أو على الأقل للتقليل من حجم خسائره وأضراره. هذه القنابل الموقوتة تتمثل في ثورة الإنترنت وتوابعه من وسائل التواصل بين البشر بدأت تحوّل العالم إلى قرية صغيرة يستطيع أي إنسان بكبسة زر أن يتواصل مع أي إنسان آخر من أقاصي الأرض وأدناها أو أن يحصل على المعلومات والصور والتفاصيل الدقيقة لكل أمر من أمور الحياة، بما فيها التفاصيل الشيطانية! إنها نعمة للبشرية من حيث المبدأ تحولت في أحيان كثيرة إلى نقمة، وهي أداة علم ومعرفة في الأساس استغلها أصحاب النوايا الشريرة والخبيثة لأغراض دنيئة وأسباب لاأخلاقية، ما يستدعي التوقف قليلاً لدراسة الوضع عن كثب والعمل على فتح باب الحوار بين أصحاب الاختصاص ورجال القانون لوضع قوانين رادعة وعقوبات جازمة تضع حداً للتلاعب بعقول الناس واستغلال الأطفال والإساءة إلى براءتهم وضرب كيان العائلة وقيم المجتمع. وبقدر ما لهذه الوسائل من أهمية وتأثير في التطور العلمي والثقافي والطبي والفني، فإن الانحراف أدى إلى أخطار تهدد كل بيت، وهذا الكلام ليس نابعاً عن رفض أو تزمت، بل هو هادف يسعى إلى مواكبة ما يجري في العالم من حوارات ودراسات واتجاهات لوضع قوانين تضبط أمام الأمور وتردع المسيئين. فإذا كنا كعرب قد دخلنا عصر المعلوماتية واستخدام الكومبيوتر والإنترنت وفروع الـ «فايسبوك» و «سكايب» و «واتس أب» و «تانغو» و «فايبر» و «الإيميل» و «يوتيوب» واللجوء إلى مفاتيح المعلوماتية مثل «غوغل» و «ياهو» وتغريدات «تويتر» وغيرها، فإن الواجب متابعة الوسائل التي يعتمدها الغرب وغيره لدرء الأخطار وتقويم المسيرة العلمية التي لم ولن تعرف حدوداً للتوقف عندها. ولا أدعو هنا إلى فرض رقابة، لأن عهد الرقابات قد انتهى، ولم يعد في إمكان سلطة أو دولة أن توقف هذا المد الهادر، ولكني أدعو إلى وضع ضوابط وقوانين رادعة لا تتعدى على الحريات الشخصية والعامة ولا تترك الحبل على غاربه، وهذا ما يجري في أعرق الديموقراطيات. وعلى سبيل المثال، هناك جدل حاد ودراسات جديدة في بريطانيا لتشجيع وضع مثل هذه الضوابط بعد أن بلغت عمليات الانحراف أوجها. وتابعت على مدى الشهرين الماضيين حملة الحكومة برئاسة ديفيد كامرون لحمل مجلس العموم على سن قوانين رادعة إضافة إلى حملة علاقات عامة لتنوير الجماهير وتحذير الأهالي من الأخطار الكامنة، ولاسيما على الأطفال والمراهقين. وفي نظرة عامة على مثل هذه الأخطار، أورد الأمثلة التالية: الترويج لأفلام الجنس والإباحية. استغلال الأطفال وحملهم على الهرب لاستخدامهم في هذه الجريمة النكراء. ارتكاب جرائم احتيال وترويج للممنوعات. نشر الشائعات والتمادي في جرائم القدح والذم بلا رادع ولا حسيب، والقيام بعمليات ابتزاز فاضحة. استغلال المنظمات الإرهابية هذه الأدوات الحضارية لغايات الترويج لأفكارها والحض على العنف والكراهية. ضرب المؤسسات العامة والعمل على تغيير مسار العملية الديموقراطية باستحداث وسائل مغرضة لتضليل الرأي العام تقوم على الفوضى. استغلال المافيات والمجموعات الإجرامية لأجهزة الاتصال الحديث لتحقيق غاياتها والتوسع في عملياتها. نشر الفتن والترويج لشائعات تحض على الكراهية والعنصرية والطائفية والمذهبية. التأثير الصحي والنفسي والاجتماعي والعائلي للتمادي في استخدام الإنترنت، ولا سيما بالنسبة إلى الأطفال والمراهقين. ففي كل بيت أكثر من جهاز، بل إن كل فرد يملك واحداً يعمل عليه بلا حسيب ولا رقيب ولا توجيه من الأهل لتدارك أخطاره والتنبه إلى المحاذير والممنوعات بحجب المواقع الإباحية والمخلة بالآداب العامة المشجعة على الانحراف والشذوذ. هذا عدا انشغال العائلة بأسرها في «التسلية» بالأجهزة والانقطاع عن التواصل العائلي والحوار وتبادل الأحاديث وتحصين أجواء الألفة بين أفراد العائلة والأهل والأصدقاء. هذه العينات تمثل جانباً من جوانب أخطار «القنابل الموقوتة»، ومثلها أمثلة عن آفات معلنة في أوروبا ومخفية في ديارنا، مثل هروب أطفال من منازلهم بتشجيع من منحرفين لاستغلالهم بجرائم خسيسة، وتدمير علاقات زوجية وعائلية، وابتزاز فتيات بنشر صورهن أو إرغامهن على الرضوخ لإرادة منحرفين استطاعوا أن يتسللوا إلى عقولهن وقلوبهن عبر الإنترنت وتسجيل لقطات أو أحاديث أو صور لهن تستخدم لاحقاً في ابتزازهن. وأعتقد جازماً أن كل واحد منا يدرك أبعاد هذه الحقائق ويخاف من نتائجها أو يكون قد مرّ بتجربة ما في هذا المجال. ولهذا لا بد من وضع ضوابط عملية لدرء الأخطار من دون مس الحريات العامة. فإذا كان الغرب المنفتح والمتفلت من القيود يسرع في سن قوانين رادعة، فإن العرب أولى بمثل هذه الخطوة المطلوبة قبل فوات الأوان. ونذكر جيداً أنه عندما قامت ثورة الاتصالات وانتشرت حمى البث عبر الأقمار الاصطناعية في مطلع التسعينات، كثر الحديث عن الغزو الفضائي الأجنبي وانعكاساته على مجتمعاتنا العربية– الإسلامية وآثاره المرتقبة على الثقافة والأخلاق والعادات والتقاليد، وبوجه خاص على الشباب والأطفال خوفاً عليهم من الانحراف والاتجاه نحو العنف والممارسات السيئة والمحرمة. ومرت الأيام ولم يأت الخطر من الغزو الفضائي الأجنبي، بل من «بيت أبي ضربت»، فقد كنا ننتظره من الغرب فجاءنا من الشرق، أي من الفضائيات العربية، التي تحول بعضها «فضائحيات» على الهواء مباشرة تنقل أجواء الملاهي الليلية والكباريهات إلى عقر دارنا وبيوتنا، بزعم أن «الجمهور عاوز كده» أو أن الجماهير تريد أن تتنفس وتتسلى وترفّه عن نفسها! ودارت الأيام، فإذا بنا نقف وجهاً لوجه أمام «حصان طروادة» من الإسفاف والخفة والرخص والبعد من العادات والتقاليد واستخدام أساليب الإثارة وحشر الجنس في كل شاردة وواردة حتى في البرامج الجادة واستخدام عبارات خادشة للحياء لا يجوز أبداً أن تظهر على قناة محترمة! ولا ننسى الدور السياسي، حيث تحولت البرامج الحوارية إلى زعيق وصراخ ووأد للحريات وتسفيه للرأي الآخر، وصار بعض الأقنية منبراً لإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والاجتماعية وتأجيج نار الخلافات وإطلاق شعارات وأخبار ودسائس تحرك الغوغاء وتنشر الفوضى. بل حتى نشرات الأخبار صارت منبراً لتشويه الحقائق ونشر الأخبار المغرضة وتضليل المشاهدين، إضافة إلى نهبهم عبر برامج المسابقات الوهمية التي لا تختلف شيئاً عن اليانصيب أو القمار نتيجة لفرض رسوم باهظة على الاتصالات الهاتفية. ولست هنا للوعظ أو للدعوة إلى التزمت والانغلاق، بل على العكس، فإن الانفتاح محبب ومنطقي، شرط ألا يتجاوز الخطوط الحمراء، حدود الدين والأخلاق والذوق العام ليقوم بتقديم المفيد والشيق في شكل عصري وحضاري وفتح نوافذ الحرية بحكمة وتعقل وبلا تجاوز للمسلمات والثوابت. ولهذا السبب عمدنا مع مجموعة من المتخصصين على صوغ ميثاق شرف للإعلام الفضائي أُقر في الجامعة العربية ومؤتمر وزراء الإعلام، إلا أنه أخذ طريقه إلى سلة المهملات مع غيره من القرارات العربية على مستوى القمة إلى المنظمات والمؤسسات التابعة لها كافة أو حتى لدولها. ولا ينكر أحد مدى المتغيرات التي حصلت في مجتمعاتنا نتيجة هذا «الانفلات» وغياب الميثاق الأخلاقي الذي يفترض بكل إعلامي عربي أن يعمل به من دون فرض ولا قهر بل من منطلق ما يسمى بالرقابة الذاتية القائمة على الضمير والأخلاق والقيم والشعور بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه وأهمية الرسالة التي يحملها، إضافة إلى كونه أباً وجداً وأخاً أو أماً عربية فاضلة. وها نحن الآن نقف أمام منعطف جديد بل وأخطر، لا بد من التصدي له بعقل وحكمة لأنه أسهل وأكثر انتشاراً وتأثيراً ولأن حصول المتلقي، ولا سيما الطفل، على حرية استخدام الجهاز بعيداً من رقابة الأهل يجعل الخطر مضاعفاً، كما أن التلفزيون الفضائي والأرضي يبقى أقل خطراً نظراً لخضوعه إلى حد ما لقوانين دول وروادع دينية، بينما الإنترنت وتوابعه منفلت إلى أبعد الحدود ويملك كل وسائل الاطلاع والمعلومات والقدرة على التأثير مباشرة ووجهاً لوجه مع المستخدم بحميمية وتواصل من شخص إلى شخص وتقديم كل ما يطلبه مهما كان وكأنه مارد فانوس علاء الدين الذي يطيعه ويلبي طلباته كأنه «عبده بين يديه». إنها صرخة... آمل أن لا تذهب في واد، أُطلقها للتحذير من «القنبلة الموقوتة» في كل بيت من بيوتنا، على رغم خطورة الأحداث التي تمر بها أمتنا وعلى رغم أن البعض يعتبرها ثانوية أمام مشهد الدمار الشامل. * كاتب عربي
مشاركة :