لا يشكك أحد في خطورة التحديات التى تواجهنا كشعب ودولة في الوقت الحاضر. اقتصادنا منهك بمديونية داخلية وخارجية ثقيلة، وبعجز هائل في ميزان المدفوعات حيث لا نصدر سوى ما يعادل أقل من ربع وارداتنا بينما تتقلص حصيلتنا من العملات الأجنبية من صادراتنا غير المنظورة من عوائد قناة السويس وتحويلات العاملين المصريين بالخارج ومن السياحة، كما لا تكفي إستثماراتنا المحلية الخاصة والعامة ولا تدفقات الإستثمارات الخارجية في توفير ما يكفي من إستثمار لدفع معدل النمو بما يكفي للتخفيف من حدة الفقر أو خلق فرص عمل منتج وكريم لملايين المصريين الذين يعانون من البطالة المقنعة فيما اصبح يعرف بالاقتصاد غير النظامي. وإذا ما نظرنا إلى أوضاعنا السياسية الداخلية فحجم التحدى أكبر. مجلس نوابنا لا يجد إهتماما لا من أعضائه الذين يتغيبون عن أهم مناقشاته فيصعب توافر النصاب القانوني لصحتها، ولا من المواطنين الذين لم يشأ ثلاثة أرباعهم تقريبا عن المشاركة في إنتخاباته، وأوضاع حقوق الإنسان لدينا صارت موضع إستنكار في العديد من المحافل العالمية وفي المنظمات المعروفة بمصداقيتها في متابعة أوضاع هذه الحقوق. وليست سياستنا الخارجية أفضل حالا. تمضي إثيوبيا في بناء سد النهضة ونحن نتذرع بانتظار أن تجود علينا العناية الإلهية بما يبقي على تدفقات نهر النيل في الحدود التى تضمن توفير حاجاتنا المتزايدة من المياه للشرب وللزراعة والصناعة والخدمات، وعلى الرغم من إدعائنا بأننا دولة محورية في الشرق الأوسط، فنحن لا نتحدث لا إلي إيران ولا لتركيا، وهما دولتان أكثر تأثيرا منا في هذا المحيط الإقليمي، صحيح نحن نتحدث لإسرائيل، ولكننا لا نخاطبها بشأن أوضاع الفلسطينين الذين ندعي أنهم في قلب اهتمامات سياستنا الخارجية، ثم تكتمت حكومتنا على استعدادها لتسليم جزيرتي صنافير وتيران للمملكة العربية السعودية في توقيت يكشف ليس عن توافق مصري سعودى بقدر ما يكشف عن صعود المملكة في سلم المكانة والنفوذ في الوطن العربي وتراجع مكانة مصر. طبعا مواجهة هذه التحديات ليس أمرا سهلا، وهناك ثمن يتعين دفعه للنجاح في الخروج من كل هذه الأزمات، ولكنه مما لا يدع مجالا لأي شك فإن الشرط الأساسي لمثل هذا النجاح هو أن يكون هناك عقل سياسي جامع يستند إلى مشاركة شعبية واسعة في النقاش حول قضايا الوطن، ويطرح كل البدائل المحتملة لمواجهة هذه الأزمات، ويشحذ حماس المواطنين ويعبىء جهودهم للخروج منها. هذا العقل السياسي الجامع لا يمكن أن يتوافر دون نظام سياسي يواكب العصر، ليس مجرد تطلع للعصرية، ولكن لأنه بدون مثل هذا النظام السياسي فلن نجني سوى تعقد أزماتنا، وإنتقالنا من مأزق داخلى أو خارجي لنقع في مأزق أشد منه خطرا. *** وسترون أعزائى القراء أنه لو كان لدينا مثل هذا النظام لما وقعنا في أزمات لا نجد لها حلا مثل مقتل وتعذيب الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وتعثر ملف سد النهضة، وعدم تجاوب قطاعات واسعة من الرأى العام المصرى مع سعى الحكومة لإعادة جزيرتي صنافير وتيران للسيادة السعودية. فما هي سمات هذا النظام السياسي العصرى؟ وكيف يمكن له أن ينقذنا من الورطات التى أوقعتنا فيها طريقة صنع القرار في مصر فيما بعد يونيو 2013. وقبل طرح هذه السمات دعوكم من القول بأن لنا ظروفنا الخاصة، ونحن نسيج فريد في تاريخ الأمم، وأننا لا نستورد حلولا من خارج ديارنا، فطالما أن أسلوب نظام الحكم لدينا في صنع القرار هو الذى يكاد يودى بنا إلي التهلكة، فلا مفر سوى أن ننظر في تجارب الآخرين، وأن نتجاوب مع العصر، لا أن نرفض قيمه السائدة وممارساته الناجحة طالما أنه ليس لدينا البديل. أول هذه السمات هو حكم القانون، أى إلتزام الحكام والمحكومين بالقواعد القانونية العامة والمجردة والتي شرعت تحقيقا لمصلحة عامة وليس إستجابة لمصالح خاصة لفرد أو جماعة أو إحدى المؤسسات. هذه القواعد نجدها في الدستور أب القوانين، ونجدها في التشريعات المستقرة التى وضعها كبار فقهائنا. هل إحترمنا الدستور بالمضي في إقامة ما يسمي بالعاصمة الإدارية دون نقاش عام وعلى الرغم من نصه الصريح على أن القاهرة هي عاصمة البلاد، وهل كان إصدار رئيس الجمهورية قانونا يتيح له عزل رؤساء الأجهزة الرقابية متوافقا مع روح نص الدستور في هذه المسألة؟ هل تنوى حكومتنا إخضاع إتفاقها مع السعودية على إعادة الجزيرتين لنقاش واسع في مجلس النواب ثم طرح المسألة في إستفتاء شعبي كما يقضي بذلك الدستور، أم ستحاول الحكومة تجنيد من يتوافق هواهم مع هواها إما لتأجيل مناقشة المسألة أو الإكتفاء بطرحها في مجلس النواب أملا في أن تجد من النواب إستجابة تماثل ما فعلوه عندما وافقوا في ساعات على أكثر من ثلاثمائة قانون صدر في غياب المجلس. وثاني هذه السمات هى إحترام حقوق المواطنين في مناقشة الشأن العام، وهى بالمناسبة نص دستورى، وقاعدة من قواعد إتفاقات حقوق الإنسان التى صدقت عليها الحكومة المصرية. هذه القاعدة الأساسية لم تخترعها دساتير معظم الدول ولا مواثيق حقوق الإنسان كمجرد إستجابة لفضول المواطنين الزائد ورغبتهم في الثرثرة فيما لا يعنيهم، ولكن لسبب أساسي يفوت على من يملكون السلطة أن يدركوه وهو أن وجودهم في مناصبهم يعود إلى إرادة الشعب الذى انتخبهم، وأن الموارد التي يتحكمون في إنفاقها هي من الضرائب التى جمعوها من هذا الشعب أو من مشروعات عامة هي ملك هذا الشعب، فضلا على أنه ليس هناك ما يدعو للإعتقاد بأنهم يحتكرون المعرفة أو الخبرة في إدارة شئون البلاد وأن الخطأ لا يأتيهم لا من ورائهم ولا من خلفهم. لم ينكر هذا الحق على المواطنين الأمريكيين باراك أوباما الخريج المتفوق لكلية الحقوق بجامعة هارفارد، ولا دافيد كاميرون خريج جامعة أكسفورد ولا فرانسوا هولاند الذى جمع في تعليمه بين أرقي المؤسسات التعليمية في بلده من المدرسة العليا للدراسات التجارية إلي معهد العلوم السياسية إلى معمل تفريخ النخبة الحاكمة في فرنسا والمدرسة القومية للإدارة. كل هؤلاء على الرغم من تعليمهم الراقي وخبرتهم السياسية الواسعة في الأحزاب السياسية وفي المؤسسات النيابية وفي المجتمع المدني لم يطلبوا من مواطنيهم السكوت عن مناقشة القضايا العامة، ولم يبخلوا علي مواطنيهم بشرح الأسباب التي دعتهم إلى انتهاج ما اتبعوا من سياسات. طبعا حرية المواطنين في مناقشة الشأن العام لا تتأتي إلا من خلال وجود إعلام حر بكافة وسائله من صحافة وتليفزيون وإذاعة لا يهيمن عليها رأى واحد ولا يسودها من يهللون فقط لسياسات الحكومة، كما يأتي في مقدمة وسائل التعبير عن الرأي أدوات التواصل الاجتماعي من فيس بوك وتويتر ورسائل نصية، والتي دفعت أهميتها كبري قنوات التليفزيون العالمية أن تفرد لها وقتا في نشراتها الإخبارية تتابع فيه أهم تعليقاتها على الأحداث الجارية مثلما نشهد في قنوات هيئة الإذاعة البريطانية، والقنوات الفرنسية الدولية. *** وثالث هذه السمات هو وجود الأحزاب السياسية التي تعبر عن مصالح المواطنين المتباينة وتسعي لترجمة هذه المصالح في صورة سياسات تعتزم تطبيقها عندما تصل إلى السلطة أو بتأثيرها على الحكومات القائمة باجتذابها لها. ولذلك تعزز النظم الانتخابية من فرص وصول هذه الأحزاب إلى مقاعد السلطة التشريعية وتكوينها للحكومات. والأمر المألوف لمن يريد المشاركة في العمل السياسي هو الانضمام إلى حزب من الأحزاب، ولا نجد في المجالس النيابية في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو الهند أو شيلي أو الولايات المتحدة من يقولون أنهم مستقلون عن الأحزاب، فالعمل السياسي عمل جماعي، ولا يستطيع أي فرد مهما كانت عبقريته أن يحول أفكاره إلي سياسات عامة إلا بالتعاون مع آخرين فى إطار مؤسسة حزبية ومن خلال العمل البرلماني في الدول ذات النظم الديمقراطية. بل إنه مما يسهل عمل الحكومة أن تكون نابعة من حزب من الأحزاب له ثقله البرلماني، ومن ثم تعرف مقدار نجاحها في إقرار سياساتها بناء على مدى الأغلبية التي يتمتع بها هذا الحزب وسط البرلمان وقدرته على حشد التأييد لسياساتها داخله وخارجه. قارنوا ذلك بالخطاب المعادي للأحزاب في بعض إعلامنا، وفي الجهود التى بذلها مستشارو الحكومة ومنهم رئيس مجلس النواب في إضعاف فرص الأحزاب في كسب الانتخابات من خلال قانون الانتخابات الذى اعترضت عليه معظم الأحزاب السياسية. أضف إلى هذه السمات ضرورة مساءلة السلطة الحاكمة وتداول المناصب العليا في الدولة في انتخابات نزيهة واحترام الحكومات للرأي العام وتواصلها معه، وغيرها من السمات التي لم يسمح الحيز المحدود لهذا المقال بتناولها جميعا.
مشاركة :