يُعدّ النقد والمراجعة في ثقافة المجتمعات المتحضرة والمتقدمة ظاهرة أصيلة وصحية تستقر في عقلية ومزاج الأمم والمجتمعات التي أيقنت بعد قرون من الجمود والتخلف أن الحضور القوي لهذه الظاهرة الحيوية والضرورية هو الضمان الحقيقي لاستمرار التفوق ومواصلة التقدم. ولعل الكم الهائل من المصطلحات والأدبيات والثقافات التي يُفرزها وبشكل سريع ومكثف "الخطاب الغربي" بمختلف ألوانه ومستوياته دليل على أن تلك الظاهرة قد تحولت إلى ثقافة طبيعية تجد لها قبولاً وتشجيعاً ودعماً من قبل كل المكونات البشرية لتلك المجتمعات. ما سبق، مقدمة لا بد منها لأصل بها إلى فكرة المقال وهي ممارسة "نقد الخطاب الديني"، وهو عنوان كبير يتضمن أيضاً مفردات شائكة وملغومة كالتجديد والتصحيح والتفكيك، ومصطلح "الخطاب الديني" أشبع كتابة وتنظيراً ولغطاً، وانقسمت حوله الآراء إلى ثلاثة اتجاهات، فريق يدعو إلى التصحيح والمراجعة باعتبار أن هذه الآلية الديناميكية تمثل المسار الصحيح لطبيعة الأشياء، وفريق ثانٍ يرفض وبشدة كل الانتقادات التي تطال هذا الخطاب بحجة أنها تخدم أجندات مشبوهة تُحاول النيل من العقيدة الإسلامية، بينما الفريق الثالث لا يجد حرجاً ولا خجلاً من إعلان رغبته الواضحة في استئصال هذا الخطاب الديني برمته من واقعنا المعاصر، لأنه سبب الأزمة التي تُعاني منها مجتمعاتنا العربية، كما يزعم أولئك طبعاً. ولكن السؤال المهم هنا: ماذا نقصد بـ"الخطاب الديني" الذي يتصدر ما بين الفينة والأخرى مشهدنا العربي والإسلامي، خاصة مع تنامي الأزمات والصراعات التي لا تهدأ، سواء كانت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أو حتى في المجتمعات الغربية؟ هل المقصود بالخطاب الديني هو المضامين التي تحمل عنوان الإسلام، سواء كانت من الثوابت أو نتيجة الاجتهاد؟ أم يُقصد بالخطاب الديني أسلوب التعبير عن تلك المضامين؟ أو بمعنى آخر، هو رؤية المسلمين للحياة بجوانبها المختلفة، وموقفهم من القضايا المعاصرة، سواء من الناحية السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية؟ أسئلة كثيرة ومثيرة حول مسألة الخطاب الديني، لا يمكن حصرها في مقال محدود كهذا. وحتى لا أقع في فخاخ التعريفات والمفاهيم حول الخطاب الديني، أضع هذا التعريف: "الخطاب الديني هو ذلك الخطاب الذي يستند لمرجعية إسلامية من أصول القرآن والسنة، وأيٍّ من سائر الفروع الإسلامية الأخرى، سواء أكان منتج الخطاب جماعة إسلامية أم مؤسسة دعوية رسمية أو أهلية أم أفراداً متفرقين جمعهم الاستناد للدين وأصوله مرجعيـةً لرؤاهم وأطروحاتهم، ولإدارة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يحيونها، أو للتفاعل مع دوائر الـهُـويات القطرية أو الأممية أو دوائر الحركة الوظيفية التي يرتبطون بها ويتعاطون معها". تجديد الخطاب الديني عملية ضرورية وصحية لا بد منها، ولكنها تحتاج إلى تضافر الجهود والرغبات، للوصول لقناعات مثمرة ونتائج موضوعية يمكن الاعتماد عليها، تُفرز خطاباً دينياً وسطياً يحظى بقبول ورضا مختلف التعبيرات والقناعات.
مشاركة :