300 عام على ميلاد فيلسوف النقد

  • 6/6/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

سيظلّ إيمانويل كانط (1724 - 1804) حيّاً يتدفّق في عروق الفكر الإنسانيّ، ما دام للعقل حياة وللفلسفة تاريخ. إنّه نقطة الذروة في الفلسفة المثاليّة، تلك التي وَجدتْ تربتَها الخصبة في ألمانيا فترعرعتْ وتفرّعتْ إلى مثاليّةٍ ذاتيّة وصلَ بها ليبنتز وشارحه كريستيان فولف، ثمّ هيغل، إلى نقطةِ الذروة، ومثاليّة تجريبيّة وصلَ بها كانط نفسه إلى القمّة. لكن، وفيما ظلّت المثاليّةُ الذاتيّةُ نزعةً ألمانيّة شبه خالصة، ربمّا تجاوبَ معها فيلسوفٌ من هنا أو مفكّرٌ من هناك، ذاعت شهرةُ المثاليّة التجريبيّة باسم النزعة النقديّة، وهو اسم تجاوزَ المسمّى، حتّى بات كلّ فكر أصيل أو مُبدع يوصف بـالنقديّ. كما بات العقل نفسه، مُنتج الفكر، يُوصف بالنقديّ، حينما يعمل باتّزان دونما تطرُّف، ويغوص في عُمق المشكلات من دون تسطيح، يَضع الأفكار في سياق زمانها بلا اختزال، والمفاهيم في إطار بيئتها بلا اجتزاء، ولو لم يكُن لتلك المفاهيم والأفكار صلة مباشرة بنظريّات المعرفة والأخلاق والجمال التي انشغل بها فيلسوفُ النقد الأكبر، التي تمرّ علينا هذا العام مئويّته الثالثة. شخصيّة كانط وفلسفته وُلد كانط في مدينةٍ صغيرة تكاد تكون قريةً كبيرة تُدعى كوينسبرغ، على مقربة من بروسيا شرق نهر الراين، في بيتٍ مسيحيّ، تربّى على الأخلاق التَّقَوِيّة، والتقويّة هي أحد المذاهب المُنبثقة عن الحركة البروتستانتيّة، وبالذّات من الكنيسة اللّوثريّة، يُشدِّد على الاستقامة الذاتيّة والالتزام الأخلاقي، وهو ما بلغَ به كانط حدّ التنسُّك. ماتت أمّه وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره، وأبوه وهو في الحادية والعشرين. أَسهم أخوه الأكبر في تربيته، وربّما مَنحته أختُه بعض الرعاية، لكنّه لم يلقَ أيّ تدليل، فكان دؤوباً مجتهداً طوال حياته. تخرَّج في الجامعة ولم يلتحق بالدراسات العليا مباشرة، بل بعد فترةٍ قضاها مُدرِّساً لأبناء بعض البيوت الغنيّة كمصدرٍ للدخل على عادة المفكّرين والموسيقيّين في ذلك الزمان. أبطأ ذلك نوعاً ما في مسيرة تقدّمه الأكاديمي، لكنّه أَخذ يستعيد نشاطه فيها منذ العام 1755، لينالَ درجة الأستاذيّة في العام 1770، ويُواصل بحوثه العميقة في الرياضيّات والفيزياء، حيث عاشَ بقيّة حياته مُتنسّكاً في محراب فكره بلا زواج، مُتمتّعاً برعايةِ خادمةٍ مُسِنّة. لم يُعرف عنه مغامرات نسائيّة من النوعيّة التي غاصَ فيها جان جاك روسّو حتّى أخمص قدمَيْه. ولم يَعرف هو ظاهرةَ التطفّل على حياة القصور والتمتُّع برعاية الملوك التي برعَ فيها فولتير، فتمتَّع بنعيمها حيناً وذاقَ وبالها أحياناً، بل كان شديد التفاني، يعمل يوميّاً في مواعيد مُنتظمة، ويُمارس الرياضة في ساعةٍ محدّدة، وخصوصاً المشي، وهي عادة يُقال إنّه لم يتخلّ عنها سوى مرّة واحدة، يوم وصلته أنباء الثورة الفرنسيّة. نقد العقل المحض على منوال شخصيّته المتّزنة، انطبعت فلسفته، فلم يُعانِ من تلك الشطحات الفكريّة التي تعكس أهواءَ أصحابها ونزواتهم، بل كان يفكّر كمسؤولٍ عن الإنسانيّة. لذا كان ميّالاً على الدوام لاستيعاب المُتناقضات والتوليف بينها، وبالذّات في أعماله الكبيرة التي بدأت بكتابه الأشهر، وربّما الأهمّ في تاريخ الفكر البشري: «نقد العقل المحض» في العام 1781 حيث صكَّ عشرات المصطلحات التي اشتغل عليها، وأثَّرتْ في الجدل الفلسفيّ بعده من قَبيل: النقد، الترنسندنتاليّة، الحساسيّة، الذهن، العقل، الصورة، المادّة، الزمان، المكان. وهو الكتاب الذي تلاه في العام 1788 كتابه النقدي الثاني «نقد العقل العملي»، حيث صكَّ مصطلحات: المثال، العملي، القانون، الواجب، الأمر الأخلاقي. ثمّ كتابه النقدي الثالث «نقد ملكة الحكم» في العام 1790، حيث قدَّم تمييزه الأثير بين الجليل والجميل. تؤسِّس الكتبُ الثلاثة لمعمارِ فلسفته. ففي الأوّل يؤسِّس لمذهبه في المعرفة على أساس مفهوم النقد. وفي الثاني يقيم مذهبه الأخلاقي على قاعدة مفهوم الواجب. وفي الثالث يقيم رؤيته الجماليّة على أساس التذوُّق العقلي. وفي ما قبلها أو خلالها، أَصدر أعمالاً مهمّة تقدِّم لمشروع النقد، أو تَشرح أجزاءً منه، وذلك من قَبيل: مقدّمة لكلّ ميتافيزيقيا يُمكن أن تكون عِلماً في العام 1783، وهو أقرب إلى شرح نقد العقل المحض، والمبادئ الأساسيّة لميتافيزيقا الأخلاق في العام 1785، وهو توطئة لكتاب نقد العقل العملي. ثمّ كتابه المهمّ الذي مثَّل إضافة لمشروعه النقدي «الدّين في مجرّد حدود العقل» في العام 1794، والذي أسَّس فيه للدين على قاعدة الأخلاق، وليس العكس. عقلانيّةٍ ماديّة لن نستطع تقدير الدور الذي لعبه الفيلسوف إيمانويل كانط في تاريخ الفكر الأوروبي، من دون استعراضٍ موجز لنظريّة المعرفة، التي يكاد الجدل حول مذاهبها الثلاثة يختزل المرحلة الحديثة منه. لقد صاغَ كانط مذهب «المثاليّة التجريبيّة» الموسوم بالنّزعة النقديّة، على سبيل التوفيق الجدلي بين مذهبَيْن متناقضَيْن: المثاليّة الذاتيّة، والتجريبيّة الحسيّة. المذهب الأوّل مفرط في المثاليّة، يَنحاز إلى العقل على حساب الحواسّ والتجربة في مُقارَبة الطبيعة والواقع. فالمعرفة لديه تنبع من العقل وتصبّ فيه، تدور في فلكِ مقولاته الأساسيّة: المبادئ الكليّة والأفكار الفطريّة، القوانين المنطقيّة، دونما اكتراثٍ بحقائق الواقع، التي يُشكّك في وجودها مستقلّةً بنفسها عن الذّات الإنسانيّة، فالواقع الخارجي مجرّد انعكاس لتصوّرات الذات العارفة.. لم تكُن المثاليّة الذاتيّة مذهباً مُغلقاً على مفكّرٍ بذاته، بل تيّاراً واسعاً توزّعت رموزه على حقولٍ معرفيّة شتّى كالتاريخ والفلسفة والأدب والهرمينوطيقا على منوال هردر وفيخته وفيتشه وشليغل ودلتاي، وشلاير ماخر، وهيغل، فيلسوف المثاليّة المطلقة، الذي مثَّل نقطةَ ذروتها، مثلما كان رحيله علامة على أفولها. لكنّ نقطة الاتّفاق الأساسيّة بين كلّ أنصار المذهب، هي أنّ مسار الألوهيّة في التاريخ يتّجه نحو التوحيد، وأنّ ذلك يتوافق مع صيرورة ارتقاء العقل البشريّ. تفضي المثاليّة الذاتيّة إلى نمطٍ من التنوير الروحيّ، يؤسِّس معمار الوجود على أولويّة الذّات الإلهيّة، التي يري فيها ضمانةً أساسيّة لاشتغال العقل، والعناية بحركة التاريخ. والمذهب الثاني مُفرط في الماديّة، وُلد هادئاً في بدايات النهضة العلميّة من رَحَمِ تجريبيّة فرنسيس بيكون، تعويلاً على مبدأ الاستقراء البسيط الذي يتطلّب فحْص كلّ مفردات الواقع قَبل الادّعاء بتعميمٍ ما. لكنّه تطوَّر مع جون لوك، وارتبطَ منذ ديفيد هيوم بالنّزعة الحسيّة القائلة إنّ العقل الإنساني ليس إلّا سطحاً أملس، لا يملك أيّ تصوّراتٍ خاصّة به، وأنّ معرفته لا تصدر عن إمكانيّاته الذاتيّة، بل تأتيه من خارجه، حيث الواقع المحيط به هو ما يرفده بمعطيات وحدوس تجريبيّة، تمرّ إليه عبر الحواسّ الخمس، لا يتدخّل فيها إلّا باعتباره أداة تبويبٍ ورصد. هنا نُصبح أمام عقلانيّةٍ ماديّة لا تَعترف إلّا بما تلتقطه الحواسّ مباشرةً من الظواهر، فيما تدير ظهرها للأفكار والمبادئ التي تعلو على عالَم الأشياء، ما يعني تجاهُل كلّ المقولات العقليّة: كالمبادئ الكليّة، والأفكار الفطريّة، التي يَنظر إليها المثاليّون على أنّها الحاضنة الأساسيّة للإيمان الدّيني، الذي يستحيل إخضاعه للتجربة. هكذا وُلد نمطٌ تنويريٌّ راديكاليّ، يَنظر إلى الإيمان كموقفٍ غير عقلاني بالضرورة، وإلى الدّين باعتباره نقيضاً للعِلم، تدور بينهما مباراةٌ صفريّة لا بدّ فيها من مُنتصرٍ ومهزوم، بل إنّ نتيجتها محسومة مسبقاً، فما إن يستنير العقلُ حتّى يبدأ الدّين في الانسحاب تدريجاً اعترافاً بهزيمته، حتّى يختفي تماماً مع التطوّر الفائق للعِلم، ونجاحه في تأسيس سلطته الواسعة على مفهوم الحقيقة. الفلسفة النقديّة والتنوير المُعتدِل بعد فترةٍ قصيرة من الاشتغال الفلسفيّ لكانط تمتدّ بين 1755 و1781 تأثّر في بدايتها بالنزعة المثاليّة، وخصوصاً لدى ليبنتز وشارح مذهبه كريستيان فولف، وفي آخرها بالنزعة التجريبيّة لدى الفلاسفة البريطانيّين، وخصوصاً الاسكتلندي ديفيد هيوم الذي يعترف بأنّ مقالاته وأبحاثه حول طبيعة العقل، وأصول الفَهم البشري، قد أيقظته من سباته الدوغمائي، تمكّن كانط من تأسيس مذهبه النقديّ عندما أصدر كتاب «نقد العقل المحض» في العام 1781، حيث شرحَ فيه كيف، وإلى أيّ مدى، تكون المعرفة العلميّة مُمكنة، والحدود التي يجب أن تتوقّف عندها. يقول كانط: «تبدأ معرفتنا كلّها بالتجربة، لا ريب في ذلك البتّة؛ إذ كيف تستيقظ قدرتنا المعرفيّة إلى العمل من دون موضوعاتٍ تصدِم حواسّنا، فتُسبّب من جهة، حدوث التصوّرات من تلقائها، وتُحرِّك من جهةٍ أخرى، نشاطَ الفهم عندنا إلى مقارنتها، وربطها أو فصلها، وبالتالي إلى تحويل خامّ الانطباعات الحسّيّة إلى معرفةٍ بالموضوعات؟.. لكن، على الرّغم من أنّ معرفتنا كلّها تبدأ مع التّجربة، فإنّها مع ذلك لا تنبثق بأسرها من التّجربة، بل من معارف قبليّة أطَّرت تلك التجربة». هكذا أَحدث كانط ما يشبه الثورة الكوبرنيكيّة في نظريّة المعرفة، إذ بات العالَم الطبيعيّ يدور في فلك العقل الإنسانيّ، مثلما تدور الأرض حول الشمس التي باتت هي مركز النظام الفلكيّ. وصارت المعرفة بمثابة تأويل مستمرّ للواقع المحيط بالإنسان وليست مجرّد اكتساب معلومات عن هذا الواقع، يتلقّاها العقل ببساطة ومباشرة. *كاتب من مصر *ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.

مشاركة :