أولاد أحمد ومحمد العبدالله توأما الفقدان والخسارات

  • 4/20/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

منتصف ليل 28 آذار (مارس) علمتُ أن صديقي مات. مات كما ينبغي أن يموت أيّ رجل نازل الموت مباشرة عارياً ووحيداً. هو متمرس في المنازلات الخاسرة. في المرة هذه، راهن بما بقي منه وكانت الجولة الأخيرة، بعدما انسحب اللاعبون وتشتتوا في ليل المدن، كذلك الأحبة هجروا وضاعوا في البعيد، ولم يبقَ أحد سوى لاعبين سئمين، نهشهما الضجر من تلاشي المعنى، بقي هو والموت يتمشيان ما بين بيروت والخيام، هكذا تصفّت اللعبة في النهاية، بقيا وحدهما وجهاً لوجه، كلاهما يحدق في الآخر، وكلاهما على علم أن اللعبة انتهت، ولكن محمد كان يناور، يراوغ، يضلّل نده بضحكة ساخرة، يوهمه بأنه يملك ما يستدعي جولة أخرى وكأساً أخرى، وكان الند يتواطأ مع نده، يمثل الشك، يوحي له أنه متردد في الإشهار، يتفحصه بطرف عينه، كي لا يجعله يربح الخسارة كاملة، ودفعة واحدة. كان محمد في المرة هذه لا يملك سوى ما بقي منه وهو قليل لا يصلح للمنازلة. لكنه نازل بما بقي، وكأن نده الموت لا يرغب في أن يحرمه متعة الوهم بخسارة أقل، فلاعبه. كم أنت طفل كبير، قطفت الليلكي من سفوح القرنة السوداء قبل أن تكتب رسائل الوحشة، وقبل أن تجلجل ضحكتك في ليل بيروت. مات صديقي، وأظنه لم يمت تماماً بل أراد أن يلاعب الموت في مكان ما على تخوم المجهول. هكذا هو اختار منذ زمن هذه المنازلة. هو محمد العبدالله، مرة كان مع كأسه في واحدة من حانات المدينة، دخلت عليه خليلته، التي، وللمصادفة، سبقته قبل شهرين إلى الغياب ممهدة أمامه درب الرحيل، وجلست بقربه، تنهدت تنهيدة مشتاق وسألته: كيفك؟ أجابها بيقين كامل على عكس العبارة التي يستخدمها عادة للتعبير عن أحواله وهي كلمة «ممتاز» التي يقولها ناقصة حرفها الأخير، مادّاً في ألفها: «ممتااااا». هكذا كان، لا يلفظ حرف «ز» عندما يقول «ممتاز» يفضل جعله مضمراً، كأشياء كثيرة يمكن للمرء أن يضمرها، ولا تستحق العناء لقولها أو لفظها مثل النقصان الذي يلازم روحه ويضمره فيحوله إلى قصيدة. اثنان من ندمائه يلفظان هذه العبارة ناقصة حرفها الأخير هما حسن م عبدالله وهيثم الأمين. «شو بدك تشربي؟». أجابت بيقين مشابه ليقينه، «سفن أب». «ما بتغيري رأيك؟»، سألها وهو على علم أنها لم ولن تغيره في موضوع المنادمة. «جبلها سفن أب»، طلب من النادل، ثم بعد جرعتين، تثأب الصمت بينهما كهرّ مدلل وتمدد بكامل طمأنينته، أراد محمد أن يقلقه بواحدة من دعاباته، فقال: يا زينب، اتصلي بأبو إيلي واسأليه أنا هونيك؟ قليلو محمد عندك؟ ضحكت زينب فرنّت ضحكتها في شارع الحمراء مثل كلة نحاسية كرجت على الرصيف نزولاً باتجاه الجامعة الأميركية، ومارس محمد ضحكته التي تشبه معادلة في الرياضيات، أو أنّ شيئاً ما انهار على دفعات، أما أبو إليا، فهو صاحب حانة في منطقة كركاس، فيما لو اتصلت زينب وسألته عن محمد سيجيبها بالتأكيد أنه هناك، فمحمد ينبغي أن يكون هناك بطريقة ما، أو أنّ شيئاً منه جالس على الكرسي، يحدق في الصور الملتصقة على الجدار صور الندماء، والشعراء والحالمين، والموسيقيين، ويفكر بسرّ احترام صاحب الحانة لستالين الذي تتوسط صورته عشرات الصور منها صورة أبو رضا أي محمد، لكنه لم يناقشه في الأمر. احترم احترامه لواحد من بين أكثر القتلة فتكاً، ولو على مضض، كان يشيح بنظره عنها إلى صورة ذلك المغني الذي غنى له أحد الأخوين لبطني، وأعني به سامي حواط، كان محمد يمازح الحواط في صورته ويقول له سلّم لي على مرسيل خليفة ودايماً يضحك «نهنهة» ساخرة.   بكاء الفجر من يعلم أن محمد كان يبكي عند الفجر ليغسل آثام العالم؟ هذا هو محمد، من الممكن أن يكسر معادلة الكينونة وتشاهده في الوقت عينه في أكثر من حانة أو مكان، فهو لاعب ساخر حدود الوجع، مرّة يتوكأ على عصاه، ومرة على القصيدة، ومرّة على كلمات أغنية تقول: «يروح ويجي بيناتنا أيلول/ وموت فوق السهل لون الليلكي/ وما حدا بيعرف شو بني وشوبكي». وتبرق في عينيه دمعة حين يداهمه الحنين، ثم يمحو بضحكة شحيحة سطراً في وصف الألم. هذا هو محمد، الذي حاكى دونكيشوت في شكل عجيب، كساحر أخرج من جيبه شالاً حوله إلى فرس راحت تعدو وتصهل في سهل الخيام: فاضي المدى/ وما في حدا/ عم يلحقو خيال/ عحصان ماشي/ عالهدا/ وخايف عخيالو/ عطول بتشق حكي/ وموسوس بـــحالو/ ولما طواحين الهوا/ بتطحن هوا قبـــالو/ بيعن عبالو الهوى/ وبتتقل حوالو/وبيصير يطعن بالهوا/ ويلعب على حبالو». هذا هو محمد، كتب هذه القصيدة كأنه يلعب في خمس كرات يرميها في الهواء ويلتقطها بمهارة، لم يدع أي كرة تسقط ولو سهواً خارج راحة يده. كأن راحة يده سهل الخيام. في المرة هذه، قالوا لم يعد من الخيام، سئم الذهاب والإياب ببدن تناقصت حروفه وبقصيدة تناثرت في الدروب. يبدو محمد ضيع «الشنكاش» في هذه المرة، وهذه المفردة عنوان مقالة له في جريدة الحياة، كان يحاول على طريقته الساخرة تعريف هذه المفردة أو المثل: «فلان مضيع الشنكاش». من مفرداته الأخرى مفردة زراعية، الباذنجان، لا أعرف سر احترامه لهذا النوع من الخضار، على عكس طبيبنا ابن سينا، أشياء كثيرة يسميها الباذنجان، وكان يعديك بالاشتهاء حين يصف الطعام ويتلمظ عند وصفه للكفتة النيئة، وله كتاب بعنوان «لحم السعادة»، علماً أن مضمون الكتاب ليس له أي علاقة بهذا العنوان، ولكن هذا ضرب من ضروب التمويه أو تسميات الأشياء بغير أسمائها. كان محمد يحترم بإجلال مشتقات اللحوم، فهي عنده بمثابة القصائد الموزونة على بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، أما الخضار فهي تأتي في منزلة قصيدة النثر، أفضلها البامية التي يحبها مشوية أو مقلية، أما الفاصوليا المطهوة بالموزات فهي بمثابة الضربة القاضية في عشقه للطعام، كان يطلب من ندى زوجتي أن تطهو له الفاصوليا، حين كان يزورنا، هذه الأكلة مفيدة لنوم أقرب إلى الغيبوبة بعد جولة في المقبلات واحتساء ما ينبغي أن يخفف بركان التفكير في الرأس. منذ أن التقيته في روافد في بيت أهله في الخيام قبل خمس سنوات، أحسست أن محمد اختار الطريق الأقرب للرحيل. لم أودعه تركته يعالج الفكرة بحكمة ذلك الفارس الخاسر. الذي يجول وحيداً في السهوب بحثاً عن شيء ضاع...   المرارة ضحكاً محمد آخر، متمرس في تحويل المرارة إلى ضحك، هذا الصديق الآخر مرة التقيته هناك في تونس توأم البلاد، هو أيضاً توأم لأبي رضا في ثقافة العيش والتهكم والحزن والكأس وتحويل الألم في مختبر الروح إلى ضحك مرّ. التقيته في أول ثورة الياسمين ينشد للبلاد: أحب البلاد/ كما لم يحب البلاد أحد/ صباحاً ومساءً/ طيلة أيام الأسبوع/ وفي الأعطال الرسمية وغير الرسمية/ ويوم الجمعة ويوم الأحد». هذه القصيدة منشورة في تنويع آخر غير هذا الذي استسغته. ولقد صارت نشيد ثورة الياسمين في بدايات ربيع العرب، وكان محمد نجماً من نجومه، لم تدم نشوة هذا الشاعر بالربيع طويلاً، بقي نجمه ساطعاً في ليله وحده. لقد ذبل الياسمين وخذلته البلاد التي أحب. يبدو أن أحلام الشعراء سهلة الاختلاس من عصابات تسرق روح القصائد، وتمتطي الشعارات الجميلة للوصول. اسمه محمد الصغير أولاد أحمد، قلت له يا محمد اسمك أطول من البحر الطويل، أجابني بصوته المبحوح، الأصح أخي أحمد، إسمي إسم قطاري، لاحظ: محمد الصغير أولاد أحمد، فنَده كلمة كلمة، يعني أنا أكثر من ولد وأكثر من محمد، وأكثر من صغير، إسمي قطاري، ورسم عربات قطار نفث دخانه في آخر الصفحة البيضاء، وضحك، لكنّ ضحكته هي أيضاً خرجت من حنجرة شبه ممحوة. الصراخ ضد الظلم والتبغ ساهم في محو صوته وفي بري الحنجرة، غالباً في المنتصف الأول من النهار يكون صوت محمد مثل سطر ممسوح بشكل رديء غير مكتمل، يمكن أن نتبين من بقايا أثره الكلام والمعنى، وهذا ما حدث معي أثناء استضافته في «روافد». في المنتصف الثاني من النهار يتفتح صوت محمد كبرعم زهر الياسمين ثم يكتمل في حانات الليل، حيث يدور النقاش والكأس، وتطرح القضايا كاملة على الطاولة، توضع بكل تعقيداتها على مشرحة البحث. هو الآخر متمرس في اللعب وفي تحويل أكثر الجروح ألماً إلى ضحكة، وأكثر المواقف حرجاً إلى نكتة، لكنه دايماً يقول ويمضي كالمسيح. هو الآخر مات في هذا الربيع، بعد يوم من تاريخ ميلاده. هو المولود في الرابع من نيسان (ابريل) 1955 مات 4 نيسان 2016، ستون سنة، جاء أولها في الربيع وغادر آخرها في الربيع دون أن يشهد أي بدايات اكتمال لربيع العرب. قال عنه شوقي بزيع: «هذا الابن المدلل للأعاصير والساخط على العالم كنبي مهجور والشفاف كدموع مريم تحت الصليب لم ينفك ينادي على يأسه في سوق النخاسة العربي، مقرراً أن لا يوقف قهقهاته العالية قبل أن تبلغ مسامع الموت»، وهكذا حدث. فعل محمد ختم الستين من عمره حتى ليلها الأخير، هو ابن الليل، حيث تختفي الظلال ويصبح المرء ظل نفسه، وتتدثر كل الألوان بعباءة الأسود الخالص. الليل حداد طويل على نهارات جنائزية يا محمد. عاد محمد إلى ليله، جارّاً خلفه عربات اسمه الطويل وخيبات متقاطرة تتأرجح على سكة العمر، عاد وحيداً مثل فارس مغدور. هذان الشاعران محمد العبدالله ومحمد الصغير أولاد أحمد، بدا غيابهما أقوى من حضورهما الأخير وإقامتهما في الحزن وفي العزلة، لأنه نبه لغياب المعنى، لهذا الانحراف الجارف للعالم نحو الإفلاس. غيابهما طنين جرس حداد طويل.     * روائي واعلامي لبناني

مشاركة :