أنا والكتاب والفضاء التقليدي - محمد بن علي المحمود

  • 4/21/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في بداية عشقي للقراءة لم تكن الفلسفة تُمثّل لي أي إغراء. الأدب عموما، والشعر خصوصا، وأخبار الغابرين المسطورة في كتب التاريخ والتراجم، هي التي شدّتني – بقوة العشق - إلى عالم القراءة، يقول ألبرتو مانغويل: "كل مكتبة بمثابة سيرة ذاتية" (المكتبة في الليل ص155). لهذا، فعندما أحكي شيئا من رحلتي مع الكتاب، فأنا بالضرورة أحكي شيئا من سيرتي أو عن سيرتي؛ قصدت أم لم أقصد. وبالمقابل، لا أظن أنني أستطيع مقاربة سيرتي على أي نحو؛ دون أن تكون سيرة الكتاب حاضرة في المفاصل الرئيسة منها. ومكتبتي التي وضعت نواتها باقتناء بعض دواوين الشعر ومختاراته، وبعض الكتب التراثية المعدودة، وأنا في بداية المرحلة الثانوية، وكبرت مع سنوات عمري، وكانت لمدة عشرين سنة أو أكثر هي غرفة نومي (باتساع بعض زواياها لسرير صغير!) وغرفة طعامي أحيانا، يستحيل فصلها عن واقع حياتي، كما يستحيل – بصورة أكبر – فصلها عن وقائع ذاكرتي، خاصة عندما تكون وقائع الذاكرة أكثر وأكبر وأعمق وأبقى من وقائع الواقع التي تبدو – بإزائها – وكأنها وقائع أحلام. كانت "أوضح" أزمة واجهتها مع الكتاب في بداياتي القرائية هي أزمتي مع الكتاب الفلسفي الذي كان حضوره يكاد يكون معدوما في الفضاء التقليدي. لقد كانت الكتب الأدبية، والتاريخية، والفكرية العامة، ينطق بعضها بما يخفيه بعضها الآخر، والمستور هنا، يكون مكشوفا هناك. وكما ذكرت في مقال سابق (لم يُقدّر له أن يرى النور)، كانت بعض الكتب التي تقع خارج النسق التقليدي، وخاصة من الكتب الأدبية، تجد سبيلها إلى الحضور الخجول؛ لجهل كثير من الرقباء والقائمين على المكتبات بمحتوياتها التفصيلية. وبهذا، فغياب كتاب ممنوع صراحة، ينوب عنه حضور كتاب آخر. وما لا تجده من الكتب على سبيل الإجمال؛ تجد كثيرا منه متفرقا في أكثر من كتاب على سبيل التفصيل. لماذا يغيب الكتاب الفلسفي؟ لماذا يغيب عن رفوف المكتبة العامة والمكتبة الخيرية في بلدتي الصغيرة أواخرَ الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم؟ هل هذا الغياب يشي بأن ثمة وعياً بخطورة الكتاب الفلسفي تحديدا؛ ولهذا لا يسمح له بالحضور إلا على أضيق نطاق؟ هل العداء القديم/ التقليدي للفلسفة والفلاسفة (وهو العداء الذي يخترق وعي التقليديين منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا)، هو السبب في خلو مكتباتنا من الكتب التي تُعنى بالدراسات الفلسفية؛ بوصفها بوابة انحراف فكري/ عقائدي؟ في بداية عشقي للقراءة لم تكن الفلسفة تُمثّل لي أي إغراء. الأدب عموما، والشعر خصوصا، وأخبار الغابرين المسطورة في كتب التاريخ والتراجم، هي التي شدّتني – بقوة العشق - إلى عالم القراءة، وأنا في منتصف العقد الثاني من عمري. لم أجد في نفسي حاجة لقراءة الكتب المعنيّة بالفلسفة إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات من دخولي عالم القراءة. وحتى عندما بدأت أشعر بهذه الحاجة، لم تكن الأمور واضحة لي تماما، لم يكن لدي تصور واضح عن الفلسفة، ولا عما يتعلق بها من قضايا وإشكاليات، وإنما الأدب، والأدب وحده هو الذي خلق لي هذا الشعور بالاحتياج إلى الاطلاع على هذا الميدان القرائي المسمى: فلسفة. القاعدة التي نهضت عليها قراءاتي الأولى هي الانكباب على الشعر القديم. وطبعا، لم يكن في الشعر الجاهلي ما يصلني بالفلسفة؛ إذ لم أكن قد اطلعت بعد على الدراسات النقدية التي تقاربه من زوايا فلسفية، أو حتى أسطورية. لكن، عندما وقعت على المتنبي وأبي تمام وأبي العلاء المعري؛ اختلف الأمر. استولى عليّ المتنبي، وأصبح ديوانه وجبة روحية يومية تمتد على عِدّة مواقيت في اليوم الواحد. الآن، وأنا أتذكر تلك اللحظات الباذخة سرورا وغرورا وأوهاما؛ أتخيّل أنني ألج عالما مسحورا/ ساحرا، ولا أتصور أنني كنت أستطيع الاستغناء عن هذه الوجبة ليوم كامل. أدمنت المتنبي؛ حتى إني حفظت معظم ديوانه قبل بلوغي العشرين، ولم يستطع عشقي لأبي تمام والمعري، هذا العشق الكبير الذي تعملق فيما بعد، أن يحد من هذا الهوس الفني – المعرفي. لم أكتفِ بحفظ أشعار المتنبي وترديدها آناء الليل وأطراف النهار، بل قادني هذا الانبهار إلى شغف غير محدود بكل ما كُتب عن المتنبي في القديم والحديث. تتبّعت تراجمه في كل كتب التراجم، بل وحتى في كتب التاريخ التي تذكر الوقائع حسب السنين، ومن ثَمّ تذكر الوفيات، وتترجم لأصحابها. في (يتيمة الدهر) وفي (وفيات الأعيان) وفي (المنتظم)..إلخ ربطت بين كل شاردة وواردة، وصنعت من كل ذلك صورة أسطورية، لا عن عبقريته الشعرية فحسب، وإنما عن فرادة شخصيته أيضا. ولهذا كنت أبتهج عندما أجد الثناء عليه في هذه الكتب، وأغضب غضبا مكتوما (ولكنه غضب حانق وحارق) عندما أجد "ألسنة الحسّاد" تنهشه في سيرته وفي شعره، وتُشكّك بعبقريته التي كانت قد بلغت – في تصوري آنذاك – درجة الكمال. هل قادني أعداء المتنبي في القديم إلى عالم الفلسفة؟ وكيف كان ذلك؟ المتنبي كان كثير الأعداء، وأكثر أعدائه من الأدباء!. ألّف الصاحب بن عباد (الكشف عن مساوئ المتنبي)، والبديعي (الصبح المُنبي عن حيثية المتنبي)، والعميدي (الإبانة عن سرقات المتنبي)، وابن وكيع (المنصف)، والجرجاني (الوساطة بين المتنبي وخصومه).. إلخ، وأكثر هؤلاء كان يتعمّد الانتقاص من المتنبي تصريحا أو تضمينا. وبما أن للمتنبي روائع لا يستطيعون إنكارها، ولا التغطية على ملامح الجمال فيها مباشرة؛ فقد عمدوا إلى أشهر حيلة ينسفون بها العبقرية الأحمدية من الأساس، وهي: الاتهام بالسرقة، أي بعدم الأصالة، وبالتالي، إظهار عبقريته وكأنها عبقرية مزيفة، لا تستحق كل هذا الاحتفاء، بل ربما لا تستحق – في رأي بعضهم – غير الازدراء، وإخراجه من زمرة الشعراء. إذا كان المتنبي مبدعا، وإذا كان إبداعه يتضح أكثر ما يتضح في الحكمة التي تكشف عن حقائق الحياة غير المنظورة، وعن عوالم الإنسان المطمورة باليومي والآني والمباشر، فإن أسهل سبيل إلى تجريده من هذا الإبداع، يكون – في نظر أعدائه – بالكشف عن مصادر هذه الحكمة التي يُخفيها عامدا؛ كما يزعمون. إنهم لا يستطيعون التغطية على جمالها؛ فيعمدون إلى كتب الحكمة الفلسفية؛ ليبحثوا عما يُشبهها، ومن ثم يزعمون أن المتنبي سرق المعنى (والمتنبي شاعر المعاني)، وقام بصياغته من جديد في بيت فريد، ثم أدرج هذا البيت في قصيدة من قصائده، وجعله يبدو وكأنه ينبع من سياقها (سياقها كنص أو كموقف)؛ ليظهر بمظهر الشاعر الحكيم. بقدر ما كان هؤلاء النقاد القدامى الكارهون للمتنبي يغيظونني في محاولاتهم تجريد المتنبي من عبقريته؛ بقدر ما كانوا يبهرونني في قدرتهم على استحضار أقوال الفلاسفة التي تتطابق مع حكم المتنبي. وإذا كانت جهودهم جاءت بالعكس (على الأقل معي)؛ فكشفت هذه الإحالات المفتعلة عن عُمق عبقرية المتنبي (لأن المتنبي إن استطاع أن يسرق الحكمة الشاردة، فلن يستطيع صناعة سياق واقعي، ومن ثم نصي، لكل بيت مسروق، ما يعني أنه وصل بمفرده إلى ما وصل إليه مجموعة من الحكماء/ الفلاسفة)، فإنها – ومن غير أن تقصد أو أقصد – قادتني إلى ساحة هؤلاء الحكماء/ الفلاسفة الذين وصلوا بالنثر المُتعقلِن إلى قمة ما وصل إليه المتنبي بالشعر، فعظمتهم – في تصوري - من عظمة المتنبي، وليس العكس. هذا على الأقل ما كنت أعدّه من يقينياتي الدوغمائية، المعرفية والجمالية، الكاملة والخالدة، التي لا تقبل أي جدال. لم يستطع هؤلاء (النقاد الحاقدون)، الذين نفثوا المعرفة في كتبهم حقدا مسعورا، أن ينزلوا المتنبي عن عرشه في قلبي وعقلي. كنت أقول لنفسي: إذا كان المتنبي قد حفر - باحثا - في كل هذا التراث الفلسفي، واستطاع أن يستوعبه على هذا المستوى من الشمولية والعمق، ثم استطاع أن يصوغه بلغته المتفردة؛ فهو عبقري عبقرية مضاعفة تستحق الإشادة، لا الإدانة. ولكن يبدو أن الأمر مع هؤلاء الحاقدين كما قال هو عن أوائلهم – تلميحا-: ومكايد السفهاء واقعة بهم وعداوة الشعراء بئس المُقتنى. بدا الحكماء/ الفلاسفة وكأنهم الوجه الآخر للشعر المبدع. استقرت عظمتهم في نفسي لأنهم يُشبِهون المتنبي. إنهم يقعون بالنثر على ما وقع عليه المتنبي بالشعر. ويزيدني غراما بهم أني قرأت في كتب النقد القديم، وفي بعض تراجم المتنبي، أن المتنبي كان يقول معترفا: "أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري". فهو ينسب نفسه إلى الحكمة، أي إلى الفلسفة والفلاسفة، وليس إلى الشعر الذي ارتفع به إلى مستوى الأسطورة؛ فبقي خالدا في ضمير الملايين على مدى أجيال وأجيال. قبل أن أقرأ في تاريخ الفلسفة، العربية أو الغربية، عثرت على كتابين في المكتبة العامة. كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي، بتحقيق: سليمان دنيا، وكتاب (رسائل إخوان الصفا)، طبعة دار صادر، في مجلدين. لم أكن لأستعيرهما؛ لو لم أكن قد تشبّعت بالإحالات الفلسفية المقتضبة التي تفنّنت فيها كتب السرقات الأدبية/ الشعرية، وخاصة ما كُتب عن المتنبي بالذات. أردت أن أتعرّف على المَخْزن الحِكَمِي الذي يزعم كارهو المتنبي أنه مصدر الحِكَمِ الخالدة التي أذهلت عشّاق الأدب على مرّ العصور، وأصبحت مقولات خالدة تجري على ألسنة الملايين.

مشاركة :