مِن المؤكد أن مَن لم يمسه شيء من رهق هذه المعاناة؛ لن يستطيع فهم سِرّ حماسنا الشديد لمعرض الرياض، ومن بعده لمعرض جدة، وحرصنا على أن يتمتع معرض الكتاب بأقصى ما يمكن من حرية ما الذي يعنيه وجود معرض للكتاب على أرض الوطن؟ هل الأمر يتعلق بظاهرة مادية ثقافيا، أي بمجرد وجود مجموعة من الكتب في حيز مكاني واحد؟ أين تقع حرية الكتاب في كل هذا؟ وما حجم العناء الذي يختصره معرض الكتاب لكل عشاق الكتب؟ أسئلة كانت - ولا تزال - مطروحة في سياق الهم الكتابي/ المعرفي. وكل ما أكتبه عن الكتاب عامة، وعن معارض الكتب خاصة، ليس إلا محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة التي تمس مسيرة البناء المعرفي لأبناء هذا الوطن الذي يَعِدُ – ثقافيا – بالكثير. في كل الأحوال، تبقى (حرية الكتاب) مسألة مركزية للمعنيين بالكتاب، تأليفا، وطباعة، وقراءة. تهون كل صور العناء، من ملاحقة لمنافذ البيع في المعارض والمكتبات، وما يتبع ذلك من ترتيب وتغليف ونقل وشحن، إذا ضمن عاشق الكتاب وصول كتابه إلى أحضان مكتبته الخاصة. ولهذا لم أستطرد في الحكاية السابقة التي انتهت بالحظ السعيد؛ عندما سمح الرقيب بالكتب كلها. لم أذكر أن حجزي على رحلة القصيم قد ألغي (وهذا كان يحدث كثيرا في تلك الأيام!)، وأني اضطررت لحملها إلى موقف النقل في جدة، ومن جدة إلى المدينة المنورة، ومن المدينة إلى القصيم. فكل عناء حدث بعد سماح الرقيب؛ تحوّل إلى عناء طبيعي، أي إلى عناء يمكن أن يحدث لأي إنسان يحمل أي بضاعة، فليس ثمة خاصية في عناء ما بعد الرقيب. يختلف الرقباء، وحظك هو الحكم الوحيد في هذا المضمار. مررت بنماذج كالنموذج السابق، أي الرقيب الذي يمتلك وعيا يجعله لا يتعامل مع الكتاب كما يتعامل مع سائر الممنوعات، ويدرك - في الوقت نفسه - طبيعة الفرق بين الكتب الخاصة التي يتعب أصحابها في استحضارها للاستخدام الخاص، وبين الكتب التي يتم استحضارها بكميات تجارية من نسخة واحدة مكررة؛ ما يعني أنها مُعدّة للبيع أو للتوزيع. وأيضا، مررت بنماذج من الرقباء الذين يضيق أفقهم عن السماح ببضعة دواوين غزلية (غزلية وليست سياسية!) لنزار قباني. وبين هذا وذاك، تعاملت مع بعض نماذج تستهين بعنائك، وتحتجز كتبك، وحتى بعد أن تذكر لهم أن محل إقامتك بعيد بمسافة تتجاوز 900 كم، لا يبالون، ويطالبونك بالعودة لاستلامها بعد بضعة أيام، وكأنك تسكن على بعد 5 كم!. أذكر زمن الدراسة الجامعية أنني قمت في العطلة الصيفية برحلة على الحافلة إلى تركيا، عبر الأردن وسورية، ولم تكن الرحلة إلا سياحة واكتشافا لمعالم سمعت بها؛ ولم أرها من قبل. لم يكن شراء أي كتاب في خطتي؛ لأني لم أكن أمتلك المال الكافي لذلك. لكن، وبينما توقفت في حلب ليومين، أستعيد ذكرياتي مع أشعار أبي الطيب المتنبي، وأحاول فتح خيالي على معالم هذه المدينة التي عاش بها شاعر العربية الأكبر كما لم يعش في أي مدينة أخرى (استوطنها تسع سنوات)؛ رأيت معرضا صغيرا للكتاب في ساحة بجانب سوق في وسط المدينة. لم أستطع مقاومة الإغراء بعدما رأيته؛ فدخلت، حيث رأيت بضع عشرة مكتبة تعرض كتبها، ومعظمها كتب تراثية، أو كتب حديثة رائجة، موجودة في أي مكان. لكن، رأيت إحدى الدور قد أحضرت معظم دواوين نزار قباني، تلك الدواوين الصغيرة المطبوعة بحجم الكف، ولأني طالما بحثت في المكتبات العامة والتجارية عن دواوينه فلم أجدها، وإذا سألت عنها؛ قالوا: ممنوعة، فقد اشتريت سبعة دواوين فقط، وقلت لنفسي: إن سمح بها الرقيب؛ فقد ربحت، وإن من منعت؛ فالخسارة لا تتعدى خمسين ريالا. في منفذ (حالة عمار) لم أكن أحمل غير حقيبة علاقية فيها ملابس رحّالة صغير، وكيس بلاستيكي فيه دواوين نزار السبعة. عند تفتيش الحافلة، كانت كتبي في يدي، وعندما سأل عنها رجل الجمارك وعرف أنها كتب، أحالني إلى المكتب. لا أعرف وظيفة الذي يجلس على المكتب، هل هو مدير الجمرك أم موظف الإعلام، لكنه قال لي بنبرة غير جازمة: هذه أظنها ممنوعة. قلت له: هي سبعة كتب صغيرة جدا، لو جمعتها ما بلغت كتابا واحدا. قال بعد أن قرأ العناوين الغزلية: ما يمكن تدخل بها. قلت: ما الحل؟. قال: اكتب عنوان بريدك، وسنرسلها مع عنوانك إلى وزارة الإعلام في الرياض، وإذا سمحوا بها أرسلوها إليك بالبريد. كتبت العنوان برقم صندوق البريد، وأنا أعلم أنها لن تأتي، بل وأظن أنها لن تُرسل إلى الوزارة أصلا. وفعلا، صدق توقعي، فمنذ 22 سنة، إلى الآن، لم تصل!. هذا حظ عاثر، وهو عكس ما حصل في منفذ (حقل)، فقد كنت عائدا بالحافلة من مصر، ومعي بضعة كتب أدبية تراثية، وقد حرصت على عدم إحضار ما يُشك فيه؛ لأني أعلم أن المنافذ البرية لا تتوفر على مراقبي إعلام معتادين على التعامل مع الكتاب. وكالعادة، أحالني المفتش بكتبي إلى مكتب المدير، وعندما رآها، قال: كتب ماذا؟ قلت: كتب أدبية. استعرضها، ثم أمسك بأحدها وهو يبتسم قائلا باستنكار: ما هذا، ديوان صريع الغواني؟!. نعم، كان أحدها ديوان الشاعر العباسي: صريع الغواني: مسلم بن الوليد، طبعة دار المعارف المصرية/ ذخائر العرب. واضح أن الذي استوقفه هو اللقب الصارخ، وأنه تخيله شاعرا معاصرا يتنقل بين ملاهي العواصم العربية. أدركت طبيعة الوهم؛ فقلت له: هذا لقبه، وهو شاعر قديم جدا، وفتحت ترجمة الشاعر في مقدمة الديوان، ووضعت يده على وفاة الشاعر سنة 208ه، وقلت له هذا قبل 1200سنة، هذا زمن هارون الرشيد، وقد لُقّب بهذا اللقب لأنه قال عن نفسه: صريع غوانٍ راقهن ورقنه لدن شبّ حتى شاب سود الذوائب فضحك، ولم يعترض على أي كتاب، وعدت للحافلة، وعندما ذكرت للمفتش أن الموظف سمح بها؛ عاد ليتأكد منه أنه فعلا سمح بها!. من المواقف التي لا أنساها مع الرقيب، ما حدث لي في مطار جدة، وبعدها (أقسمت ألف يمين) ألا آتي عبر مطار جدة ما دمت أحمل كتبا؛ مهما كانت الأحوال، لا لأن مطار جدة أكثر منعاً من مطار الرياض، وإنما لأن العودة لاستلام الكتب بعد أيام من المطار، تعني قطع أكثر من 900 كم، (المسافة بين القصيم وجدة) بينما العودة لمطار الرياض تعني قطع مسافة لا تتجاوز 350 كم (المسافة بين القصيم والرياض). يتلخص الحدث في أني عدت منتصف الليل من مصر بثلاثة كراتين كتب وحقيبة. أحالني المفتش في مطار جدة إلى غرفة الإعلام، ولكن لم يكن في غرفة الإعلام موظف الإعلام. قال المفتش، ضعها هنا، وعد إليها غدا. قلت: طائرتي للقصيم بعد خمس ساعات. قال: ماذا أعمل، كلّم أي أحد يأتي من جدة غدا ويستلمها، ثم يرسلها لك؟ قلت: لا أعرف أحدا في جدة. ثم قلت: لماذا لا تراها أنت، أنا الآن أمامي خمس ساعات انتظار، استعرضها كتابا كتابا. قال: ليس هذا عملي، لكن، ضعها في غرفة الإعلام، وغدا سيراها موظف الإعلام، واطمئن، ستبقى محفوظة، وأنت في أي وقت، ولو بعد شهر، تأتي وتستلمها، أو ترسل من يستلمها. بعد أن يئست منه، خرجت، وعدت إلى القصيم بألمي وحسرتي وغضبي، وبقيت مشتت الذهن لا أدري ماذا أفعل. كنت أحكي قصتي لكل صديق أو زميل أو معرفة؛ لعلي أجد من سيسافر، أو يعرف من سيسافر إلى جدة، أو يعرف حلا من أي نوع. وقد أجابني أحد زملائي في قسم الأدب بقوله: ضاعت كتبك، وحتى لو ذهبت الآن فلن تجدها، لقد مضى عليها أسبوعان، وسيرمونها في أقرب مستودع، وستُنسى. قلت له ممازحا، ولكن بحنق: سترجع إليّ ولو كره الشامتون. بعد مضي ثلاثة أسابيع، كنت جالسا مع شيخ سلفي، فقلت له مُمازحا: ما عندك نية تأخذ عمرة، أو تعرف أحدا عنده نية؟. فاجأني أنه أجاب بجِدّ، وهو يظن أنني أريد مرافقته: بلى، سآخذ عمرة بالطائرة بعد أسبوعين أو ثلاثة مع بعض الزملاء، هل عندك نية؟ قلت له والفرحة تضيء ما بيني وبينه: لا، ثم ذكرت له قصة كتبي. قال: أبشر، اكتب ورقة أنك سمحت لي باستلام الكتب، حتى أريهم إياها لو طلبوها، وأيضا حتى لا أنسى، واكتب صفة الكراتين، وماذا كتبت عليها، ولا تهتم؛ الأمر سهل، ففي طريق العودة سأحضر قبل موعد الحضور بساعة؛ لاستلامها من الصالة الدولية/ الخطوط الأجنبية. حضر الموعد الذي ذكره، وسافر، ثم عاد. بعد تأكدي من عودته، اتصلت به بعد ثلاث أو أربع ساعات، وسألته عن الكتب حتى قبل أن أقول له: تقبل الله، أو الحمد لله على السلامة، كما هو المعتاد في تحية المعتمرين. طبعا، قلتها له بعد أن تأكدت من سلامة كتبي!. كنت قلقا أن أي شيء ممكن أن يعيقها، فقد تضيع، وقد تمنع وترسل للوزارة، وقد يرفضون تسليمها لأي أحد غيري، قد وقد..إلخ ما ينتجه القلق. لكنه أجابني بأنه استلمها وأنها موجودة عنده، وقال: تعال خذها. عندما حملتها من فناء بيته، ووضعتها في سيارتي، لاحظت أن الكراتين لم تفتح، لا يبدو عليها أثر فتح. لهذا سألته كيف استلمتها. قال: الأمر غريب، دخلت على المكتب، وقلت له: عندي كتب في كراتين وحقيبة، قال الموظف وهو على مكتبه: هل هي هذه الكتب الملقاة في زاوية المكتب؟ فقلت له: نعم؛ بعد أن رأيت اسمك مكتوبا عليها من كل الجهات، كما وصفتها لي. فقام الموظف وفتح طرف الحقيبة، ونظر نظرة عابرة دون أن يقرأ عنوان أي كتاب، ثم قال: خذها، مع السلامة، ولم يفتح أياً من الكراتين!. حين قال لي هذا؛ أحسست بالغيظ، كيف مُنعتُ في تلك الليلة من اصطحاب كتبي، من أجل هذه النظرة العابرة، كيف تم حجز كتبي كل هذه المدة، وقد كان بالإمكان السماح بها، بعد (نظرة عابرة - غير تفتيشية) لا تتجاوز ربع دقيقة؟ لو أنهم جلسوا يفحصونها كتابا كتابا، ومع كل كتاب حزمة أسئلة؛ لارتحت، ولاعتقدت أن احتجازهم لها في تلك الليلة كان موضوعيا، وبالتالي مبررا؛ لأني كنت سأجزم أن الإجراءات العملية/ النظامية تتطلب ذلك. لقد مَكثتْ عندهم مُلقاة – دون أن تُمسَّ - لأكثر من شهر؛ لمجرد أن موظف الإعلام لم يكن حاضرا، مع أن المطار دولي، والطائرات تهبط فيه على مدار 24 ساعة، والركاب ينطلقون منه إلى مناطق شتى. المواقف كثيرة، وهي بين يُسر وعُسر، وأذكر أنني كنت قادما من بيروت بكمية كبيرة من الكتب، فسمح بها موظف الإعلام دون أن ينظر إليها؛ لمجرد أنه كان مشمئزا وغاضبا وهو يفحص مجموعة أفلام إثارة للراكب الذي سبقني إليه. ومع أن تجربتي مع الرقيب لم تكن سلبية، إذ لم تُصادَر لي إلا بضعة دواوين نِزارية، إلا أن همّ الرقيب كان حاضرا في كل لحظات انتقاء وشراء الكتاب. وكثيرا ما اضطررت لترك ما هو مهم من الكتب؛ لمجرد أني لا أخشى منعها فحسب، وإنما أخشى أن تتسبب في إعاقة بقية الكتب. إن كل ما ذكرته كعيّنة من مُعاناة امتدت لأكثر من ثلاثة عشر عاما مع الكتاب (حتى عام 1426ه، بداية معرض الرياض، والانفتاح الكبير في طبيعة المعروض)، انتهت بضربة واحدة، انتهت مُعاناة السفر والشحن والرقابة بإقامة معرض دولي للكتاب في الرياض، معرض يأخذ في الاعتبار أن حرية الكتاب هي الشرط الأول لنجاح المعرض. ومِن المؤكد أن مَن لم يمسه شيء من رهق هذه المعاناة؛ لن يستطيع فهم سِرّ حماسنا الشديد لمعرض الرياض، ومن بعده لمعرض جدة، وحرصنا على أن يتمتع معرض الكتاب بأقصى ما يمكن من حرية؛ فهو – فضلا عن كونه احتفالية ثقافية تدفع باتجاه القراءة جماهيريا – شريان الحياة الطبيعي لعشاق الكتاب. ma573573@hotmail.com
مشاركة :