حالة روسيا عند اندلاع الحرب فى أوكرانيا، ظنت روسيا فى بادئ الأمر أن «عملياتها العسكرية الخاصة» سوف تنتهى بشكل حاسم وبسرعة، ومن ناحية أخرى، اعتقدت أوكرانيا ومعها الغرب أن باستطاعتهم هزيمة روسيا فى وقت سريع، وأن اقتصاد الأخيرة لن يستطيع الصمود وتمويل العمليات العسكرية الخاصة بهذه الحرب، ولكن ثبت خطأ كل هذه التوقعات مع وصول العمليات العسكرية إلى طريق مسدود (وإن كانت لصالح روسيا بنسبة بسيطة)، وتوقع صندوق النقد الدولى ارتفاع معدل إجمالى الناتج المحلى لروسيا بنسبة 3.2% هذا العام، ونحو 2.8% فى العامين التاليين. قام الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مؤخرًا، بعد إعادة انتخابه فى مارس 2024، بتبديل كبار مستشاريه. فعلى سبيل المثال، قام بوتين بتعيين الخبير الاقتصادى أندريه بيلوسوف وزيرًا للدفاع، ربما لمعالجة الشكاوى المتعلقة بالتدفق غير المنتظم للإمدادات العسكرية، وقام بوتين كذلك بنقل سيرجى شويجو، وزير دفاعه السابق وأحد المقربين منه، إلى دور جديد كأمين لمجلس الأمن الروسى، ليحل محل نيكولاى باتروشيف. ونقل الأخير، الذى كان مستشارًا للأمن القومى منذ فترة طويلة، إلى منصب آخر غير محدد. يمكن أن تكون كل هذه التغييرات بمثابة محاولة من قبل الرئيس الروسى (من دون إحداث هزة عنيفة) لإبراز شعوره بالمسؤولية عن هذه الحرب التى لاتزال ممتدة، ونتائجها غير حاسمة، ولتأكيد سلطته أيضًا، وبخاصة بعد حادثة فاجنر، التى تم فيها تحدى وزير الدفاع علانية. إن كيفية تعامل روسيا مع أوروبا فى المستقبل ستكون على رأس جدول الأعمال، ولكن ما ستركز عليه روسيا فى المستقبل القريب- لأنه أكثر أهمية بالنسبة لها- هو فهم سياسة الولايات المتحدة فى ظل إعادة انتخاب بايدن أو صعود ترامب وتوليه مرة أخرى. وكرد فعلٍ على التعديات الغربية واستعدادًا للسنوات القليلة المقبلة، شهدنا وجودًا روسيًا متزايدًا فى مناطق مختلفة من العالم. ففى سياق الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب ووقف انتشار الفساد وجشع الشركات والحكومات الغربية الكبرى، توسع الوجود الروسى بإفريقيا وأصبح ممتدًا فى: ليبيا، والسودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ومدغشقر، ومالى، ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى، وعادت شعارات الحرب الباردة إلى الظهور من جديد تحت ستار منع الهيمنة الغربية إلى جانب الاهتمام المتجدد بالتعامل مع الصين، ومجموعة البريكس، وغيرهما. حالة الولايات المتحدة الأمريكية تتجه كل الأنظار حاليًا نحو الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، بين مرشحين سبق لكلٍ منهما حمل لقب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم لا يمكن لأىٍّ منهما أن يخدم- فى أحسن الأحوال- إلا لفترة أربع سنوات أخرى فقط. وقد تجاوز عمر كل منهما 70 عامًا، ولديهما تصورات متباينة حول دور أمريكا وسياساتها ومسؤولياتها. ورغم أن كلًا من المرشحين لا يمثل الخيار المفضل لحزبه، فإن بايدن وترامب يُنظر إليهما على أنهما المرشحان الوحيدان القادران على هزيمة منافسيهما. ومن المرجح أن يتم تحديد نتيجة الانتخابات على أساس رؤية كل مرشح لقضايا الاقتصاد، وحقوق الإجهاض، والهجرة، والعمر. وبغض النظر عن السياسات الاقتصادية، فإن العوامل الأخرى المذكورة لا تكون عادةً حاسمة فى الانتخابات. إن كلا المرشحين والقضايا التى ستقرر مصيره السياسى انعكاس واضح لعملية «البحث عن الذات»- إذا جاز التعبير- التى يعيشها الأمريكيون الآن، فهم يحاولون تحديد هويتهم فى الداخل، والدور الذى يجب أن تؤديه بلادهم على الساحة الدولية. ولن تضع السياسة الخارجية فى حسبانها الكثير فى الوقت الحالى، وخاصةً فيما يتصل بروسيا والصين. أما فيما يتعلق بغزة، فقد يكون الوضع مكلفًا انتخابيًا بالنسبة لبايدن؛ بسبب استياء الديمقراطيين واللوبى المؤيد لإسرائيل؛ إذ لا يشعر أىٌّ منهما بأى ميل تجاه الرئيس الحالى. ختامًا، أتوقع أن تظل الولايات المتحدة والصين وروسيا، بهذا الترتيب، «قوى عظمى» حتى عام 2030. ما لم يحدث صراع عسكرى؛ إذ إنه فى هذه الحالة ستتقدم روسيا على الصين. إن القوى الثلاث جميعها فى حالة من التغيير وإعادة التنظيم؛ ومن ثم ستكون تكتيكية للغاية، وستحسب كل خطوة بعناية وعلى الأمد القصير طوال القرن الحالى، مع متابعة أى مؤشرات تحدد بشكل أفضل مستقبل القوتين الأخريين بعد تغيير قيادتهما الحالية خلال هذا العقد أو الذى يليه. وما يقلقنى حقًا هو أن الأخطاء التى تُرتكب نتيجة للحكم السيئ أو سوء التقدير قد تظل نتائجها الضارة مستمرة ومؤثرة فى العالم أجمع. ربما تنطوى إعادة انتخاب بايدن على استمرار الموقف العدائى تجاه روسيا، خاصة مع إعادة انتخاب بوتين. ولكن تظل الصين هى التحدى الأعظم الذى يواجه أمريكا من وجهة النظر الأمنية للإدارة الحالية؛ ومن ثم فإن الأوضاع فى الصين ستحظى بمتابعة وثيقة من قبل هذه الإدارة، وخاصةً القضايا الاقتصادية وقضايا نقل التكنولوجيا. وكذلك إذا ما توحدت تايوان مع الصين، فمن المتوقع أن يؤدى ذلك إلى رد فعل أقوى من جانب بايدن. أما فى حالة انتخاب ترامب فهو يُعد أقل ميلًا نحو التعامل العدوانى مع القوى العظمى الأخرى أو غيرها؛ ومن ثم فإن المواجهات الاستراتيجية العدوانية ستكون أقل حدة وتوترًا فى ظل فترة ولايته، خاصةً إذا ما اقترنت بمكاسب اقتصادية لكلا الجانبين. وفيما يتعلق بالعلاقات فى الشرق الأوسط؛ فإن الصين ستستمر فى النمو اقتصاديًا وسياسيًا كذلك، وإن كان ببطء. أما روسيا فهى تقف على منحنى رد الفعل؛ إذ تنتقى نقاط الضعف الغربية لتكسب ببطء بعض الأصول الاستراتيجية، خاصةً فيما يتعلق بالمرافق اللوجستية. وفيما يتعلق بإسرائيل وإيران، فإن القوى الثلاث لن تستخدم القوة أو تكون عدوانية، سواء فيما يتعلق بعملية السلام فى إسرائيل، أم الحد من إمكانات إيران النووية. ومن المتوقع أن تكون اليمن وليبيا والسودان بمثابة ساحات لإعادة التموضع والاتزان بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، ولكن تظل أهميتها أقل بالنسبة للصين. إن الاستنتاج الأهم الذى يمكن استخلاصه هو أن الأدوار التى ستؤديها الولايات المتحدة وروسيا لن تتماشى مع الماضى، وأن الصين أمامها طريق طويل لتقطعه قبل أن تتمكن من ادعاء الزعامة؛ إذا ما قررت حقًا أداء هذا الدور. ومن هذا المنطلق، فإن المزيد من الانفتاح على كافة الجبهات والتنويع فى العلاقات هو الخيار الأفضل للدول العربية، مع زيادة الاعتماد على القدرات الوطنية والعلاقات الإقليمية.
مشاركة :