ما زلت أتذكر مساء ذلك اليوم أمام بيتنا الصغير في حي الصالحية بالرياض، عندما فرحنا بعودة سيدي الوالد -حفظه الله- من مكة المكرمة بعد أن أدى مناسك الحج «عبري» بلهجة أهل نجد، أي أنه سافر عن طريق سيارات النقل، من الرياض إلى مكة المكرمة، وكيف استقبلناه أنا وأختي الكبرى بلهفة وشوق، وما زلت أتذكر هديته العجيبة الصغيرة في حجمها الكبيرة في قيمتها لدى الأطفال، التلفاز البلاستيكي الصغير الذي يعرض صورا عن مكة المكرمة عند الضغط على أزراره، فكنا ننظر إليها بعيوننا الصغيرة المتلهفة لقصص الحج وحكايا المشاعر المقدسة: الكعبة المشرفة، مقام إبراهيم، عرفات، المسعى، منى، مزدلفة، الجمرات، مسجد نمرة وغيرها من تلك البقاع المقدسة التي نراها بعيوننا الصغيرة من خلال هدية والدي حفظه الله والتي تحمل عددا من الصور التي ما زالت مرسومة في ذاكرتي بعد مرور أكثر من أربعين عاما، بل كانت سيدتي الوالدة وضحى بنت هزاع -رحمها الله- فترة غياب الوالد ونحن نتحلق حولها وصوت الإذاعة المحلية يتردد في أرجاء بيتنا الطيني الصغير بنداء الحج الأعظم «لبيك اللهم لبيك» وهي تجيب -رحمها الله- بأسلوبها الحاني والمشوق على أسئلتنا الطفولية، عن الوالد وأحواله في الحج وماذا يفعل تلك الأيام في المشاعر المقدسة، حيث كانت تصف لنا مناسك الحج بأسلوبها القصصي، الذي رسم الصورة قبل الكلمة وخفف من شوقنا واشتياقنا للوالد خلال غيابه وسفره إلى مكة المكرمة، ولا أنسى دعواتها المباركة -رحمها الله- لولاة الأمر في تسهيل خدمات الحج وتوفير الأمن والأمان لقاصدي البيت العتيق والرحاب المقدسة، تذكرت هذا وأنا أقرأ ما قاله الدكتور توفيق الربيعة وزير الحج: «نحن حريصون لخلق تجربة تنتقل من الفكرة إلى الذكرى»، نعمل اليوم على إثراء المواقع التاريخية، بالتعاون مع 40 جهة لإثراء تجربة الزائر في المدينة المنورة ومكة المكرمة. ولا شك أن برنامج خدمة ضيوف الرحمن هو أحد برامج تحقيق رؤية المملكة 2030، ويتمثل دور البرنامج في إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المسلمين لأداء فريضتي الحج والعمرة على أكمل وجه، والعمل على إثراء وتعميق تجربتهم، من خلال تهيئة الحرمين الشريفين، وتحقيق رسالة الإسلام العالمية، وتهيئة المواقع السياحية والثقافية، وإتاحة أفضل الخدمات قبل وأثناء وبعد زيارتهم لمكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، وعكس الصورة المشرفة والحضارية للمملكة في خدمة الرمين الشريفين وضيوف الرحمن. وهذا البرنامج العظيم أطلق في عام 2019م من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-، امتدادا لشرف خدمة الحرمين الشريفين من ملوك هذه البلاد منذ عهد جلالة الملك المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه، وحتى عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أيده الله وولي عهده الأمين، لقد نجح البرنامج في متابعة رحلة المعتمر والحاج للحرم المكي والحرم النبوي، منذ أن بدأت فكرة السفر لديه وهو في بلاده إلى عودته سالما غانما من خلال متابعة تلك الرحلة المقدسة وتطويرها والارتقاء بها وبكل خدماتها، لا شك أن ذلك حصل من خلال تسهيل إجراءات إصدار التأشيرات والعمل على زيادة الرحلات الجوية، وتطوير الخدمات بالمطارات ومنافذ الدخول، وكذلك تطوير عملية التنقل للوصول للحرمين الشريفين و»رقمنة» كافة الخدمات المقدمة بالحرمين الشريفين. السؤال الحلم متى ينجح البرنامج في رسم معالم «الذكريات» الغالية لدى الحجاج بعد عودتهم إلى أوطانهم سالمين غانمين؟ هنا لا بد من عمل دراسات تتضمن حوكمة لكافة الإجراءات التنفيذية لجميع الخدمات المقدمة لقاصدي البيت العتيق والمدينة المنورة، كما على البرنامج الاستمرار في خطته بالتعاون مع جميع القطاعات الحكومية بتطوير المناطق التاريخية والمعارض المختلفة لتكون ذكرى الزيارة «جميلة» وثرية ولا تنسى ويكون لدى الحجاج فكرة شمولية عن تاريخ الاسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، عبر خارطة المشاعر المقدسة، بعد عودتهم إلى أوطانهم ليبقى «الحج» أجمل ذكريات العمر، باكتمال اللوحة السعودية الخالدة من «الفكرة إلى الذكرى».
مشاركة :