أمام بسطة صغيرة لبيع الذهب أقامها صائغ فلسطيني على شارع البحر في منطقة مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، تخرج الفلسطينية سمية أحمد من حقيبتها ورقة صغيرة كانت تخبئ بداخلها خاتما ذهبيا ورثته عن والدتها. وبحركة بطيئة ومترددة كأنها تأبى أن تفتح الورقة وتكشف عن الكنز الذي تخبئه، تقول أحمد البالغة من العمر (35 عاما) والدموع بعينيها "هذا خاتم والدتي، ورثته منها بعد وفاتها، وأتيت اليوم لأبيعه بسبب ضيق الحياة التي نعيشها". وتضيف أحمد بصوت مختنق والصائغ يفحص الخاتم "لا فائدة من الذكريات إذا كنت تموت أنت وعائلتك من الجوع". وكان زوج سمية يعمل سائق تاكسي قبل أن يفقد قدمه في قصف خلال الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ السابع من أكتوبر الماضي. وتقول أحمد لوكالة أنباء ((شينخوا)) "أنا وأولادي متنا من الجوع، خاصة بعد بتر قدم زوجي الذي لم يعد يستطع العمل، لذلك كان لابد لي من بيع هذا الخاتم، أنه ليس وقت المظاهر بل وقت سد أصوات الجوع في معدة أبنائي". وتضيف وعيونها ترمق الخاتم لآخر مرة والصائغ يضعه داخل قفص زجاجي تمهيدا لعرضه للبيع "لم أتخيل يوما أن أبيع الذكرى الوحيدة التي أمتلكها من والدتي (..) الوضع صعب للغاية هنا، ونحن مجبرون على فعل الكثير من الأشياء التي لا نريدها". وتتابع "نحن نموت كل يوم ألف مرة ولا أعرف إن كنت سأعيش طويلا وأن أحتفظ بهذا الخاتم (..) لذلك أفضل أن أبيعه لأطعم أطفالي بدلا من الموت جوعا". ووسط امتعاض الصائغ صاحب البسطة الذي قبل بإجراء مقابلة بصعوبة واكتفى بذكر اسمه الأول لأسباب أمنية، على حد تعبيره، فإن العديد من النساء يزرن بسطته يوميا لبيع الحلي والمجوهرات في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه القطاع المحاصر بفعل الحرب. وزهير وهو نازح من مدينة غزة، هو واحد من عشرات تجار الذهب والصاغة الذين أقاموا بسطات لبيع الذهب في منطقة المواصي الساحلية. ويقول زهير "الإقبال على بيع الذهب لدى النازحين ازداد بشكل كبير في الآونة الأخيرة"، مضيفا "لكن في المقابل نادرا ما تجد أحدا يشتري ذهبا". ويضيف أن سعر جرام الذهب يتراوح بين 41 و43 دينارا أردنيا (الدينار يساوي 1.41 دولار أمريكي). وأردف زهير قائلا إنه مع بداية موجة النزوح الأخيرة من رفح إلى المواصي في شهر مايو الماضي، جاءته سيدة وعرضت عليه أن يأخذ عقدا ذهبيا من العيار الثقيل مقابل فقط الحصول على خيمة لها ولأبنائها الأربعة. وأمام أحد محلات المجوهرات في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تقف عدة سيدات في طابور من أجل بيع بعض ذكرياتهن على شكل قطع ذهبية. وتقول الفلسطينية علياء أمين البالغة من العمر (37 عاما) "انتظرت لمدة 20 دقيقة حتى استطعت الدخول إلى المحل وبيع قرطين من الذهب هما ذكرى من يوم زفافي". وتضيف ل((شينخوا)) بعيون دامعة "لا تهم الذكريات الآن، ما يهم هو ألا يبقى أطفالي جائعين". وكانت أمين تعمل معلمة في مدرسة خاصة في مدينة غزة، وتوفي زوجها وترك لها طفلين أكبرهم بعمر 8 سنوات. وتشكو أمين من أسعار الذهب "كل بائع يبيع على هواه، لا يوجد رقابة، هناك استغلال لحاجة الناس". وتضيف "المساعدات باتت شحيحة، ولا يوجد مصدر رزق ثابت، والأسعار في ارتفاع مستمر وغير مسبوق، ولا يوجد رقيب أو حسيب". وتقول أمين أنها ستشتري بثمن القرطين دقيقا وزيتا وبعض المعلبات والحاجيات لأطفالها الذين ينتظرون منذ ساعات الصباح عودتها بأكلات لذيذة لهم. ومع الاستمرار في ارتفاع الأسعار في الأسواق، تقول أمين بنبرة حزينة إن النقود التي حصلت عليها من بيع القرطين ستكفي لمدة أربعة أيام أو خمسة بالكثير، ولا تعلم ماذا تفعل بعد ذلك. ويعاني النازحون في وسط وجنوب قطاع غزة من ظروف معيشية قاسية وارتفاع في أسعار السلع المتوفرة ونقص في بعض المواد الغذائية، وارتفاع في نسب البطالة نتيجة الحرب الإسرائيلية. ويقول زهير "دائما ما كنا نبيع ونشتري الذهب، لكن ما تغير هو سبب بيعه، قبل الحرب لم تكن تستغرب أن يأتي شخص ليبيع ذهبا من أجل دفع أقساط تعليم ابنه أو للمساعدة في دفع قسط شراء سيارة أو لتجديد قطعة ذهب لزوجته أو لوالدته، أما اليوم فالناس يبيعون الذهب من أجل شراء الدقيق والفول والزيت وشراء الأغطية". وألحقت الحرب دمارا "غير مسبوق" بسوق العمل والاقتصاد الفلسطيني، وفق منظمة العمل الدولية. وبحسب بيانات رسمية جمعتها منظمة العمل الدولية والمكتب المركزي للإحصاء الفلسطيني في وقت سابق من شهر يونيو الجاري، فقد وصلت نسبة البطالة في قطاع غزة إلى 79.1 في المائة. كما تقلص الناتج الاقتصادي الإجمالي في غزة بنسبة 83.5 في المائة بسبب الحرب، وفقا للمنظمة التابعة للأمم المتحدة. في حين أن المساعدات الإنسانية لم تدخل لقطاع غزة منذ نحو 50 يوما بسبب استمرار إسرائيل في إغلاق المعابر، وفقا لبيان صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي التابع لحماس.
مشاركة :