في العادة، لا يقتطع قادة الشركات أياماً من جداولهم المزدحمة للحديث عن مستقبل الديمقراطية. لكن يبدو أن هناك حاجة ماسة لذلك في هذه الأوقات غير العادية. وخلال الأسبوع الماضي، حضرت خلوة مع نحو 40 من قادة الشركات العالميين وأتيحت لي الفرصة لجس نبضهم حيال عصر جديد يسوده القلق المتزايد. وخرجت بعدد من النقاط المهمة لعل أبرزها: الأولى: باتت السياسة الشغل الشاغل على مستوى مجالس الإدارات في الآونة الأخيرة. وفي السابق، خلال مثل هذه الفعاليات، كنت تسمع الكثير من الحديث حول الأعمال التجارية ذاتها، وكذلك التكنولوجيا والإدارة. لكن هذه المرة، تمحور حديث القادة حول ما يمكن أن تتمخض عنه الانتخابات الحاسمة هذا العام، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا. ولم يكن ثمة توافق واضح حيال ما إذا كان جو بايدن (بافتراض بقائه كمرشح للحزب الديمقراطي) أو دونالد ترامب هما الأصلح لقطاع الأعمال، ما يعكس المخاوف حيال التأثير المالي لخطط إنفاق بايدن (رغم أن القلق بشأن تأثير أي تخفيضات ضريبية محتملة لترامب أقل بكثير). ومع ذلك، يبدو أن هذا يعكس أيضاً اعتقاداً ساذجاً بأن قطاع الأعمال يمكنه التعامل بنجاح مع ترامب خلال فترة رئاسية ثانية. وأشك أن هذه ستكون هي الحال. وألقى المشاركون كلماتهم بموجب قواعد تشاتام هاوس والتي تتيح الفرصة للمشاركين بالتستر على هوياتهم، وهذه السرية تشجعهم على التصريح بأقوال وآراء قد تتناقض مع ما يصرحون به علناً، وقد لفتوا إلى أن الاتحاد الأوروبي يواجه خطر التفكك؛ نظراً لعدم استقرار السياسات في كل من فرنسا وألمانيا، ومن المفارقات أن بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي باتت الأقل اضطراباً في الكتلة الأوروبية. كما كان هناك قلق شديد حيال التحركات الصينية بخصوص تايوان، ما يعني احتمال نشوب صراع محتدم – أو على الأقل اختناقات في طرق النقل – في بحر الصين الجنوبي. وبينما دعا أحد المشاركين الصين للعودة إلى نهج التسعينيات «في الوقت المناسب»، عندما استعانت الشركات متعددة الجنسية الكبرى بمصادر خارجية للإنتاج في الصين بناءً على الحجم وتكاليف العمالة المنخفضة، فقد شكك معظم المشاركين في إمكانية حدوث ذلك. وهذا يقودنا إلى النقطة الثانية: هناك تحوط كبير من جانب الرؤساء التنفيذيين في رهاناتهم، فقد تشجب الشركات علناً التعريفات الجمركية والشعبوية ومخاطر السياسات الصناعية، لكن في الخفاء يدرك القادة أن الحكومات المقبلة ستلعب دوراً أكبر في كيفية إدارة الشركات. وبين صعود القومية الصينية، وعودة التصنيع في الولايات المتحدة، والبروز القوي لليمين المتطرف في أوروبا، وانتخاب زعماء مؤيدين للعمال في مناطق مثل المكسيك (وربما بريطانيا لاحقاً)، فقد حل الشد والجذب للمخاوف الوطنية محل نموذج «الكفاءة» العالمي الفريد لقطاع الأعمال. وهذا يعني ارتفاع موجة من الاستراتيجيات الأكثر تعقيداً للأقلمة وتفادي المخاطر. وبالطبع، لا تركز هذه الاستراتيجيات على السياسة فحسب، إذ تدفع النفقات والوقت الأطول لنقل البضائع لمسافات بعيدة عبر سلاسل التوريد الطويلة، والحاجة إلى خفض انبعاثات الكربون، وارتفاع الطلب على العمالة، والمستهلكين المتلهفين لتلبية رغباتهم فوراً، العديد من الشركات تجاه مراكز محلية متعددة للإنتاج والاستهلاك. وتعد التكنولوجيا هي السبب في جعل هذا الاتجاه نحو «التمركز» ممكناً ومرغوباً أيضاً. كما يلاحظ مايك ويلسون، مؤسس معهد بارك للتصنيع والخدمات اللوجستية وإدارة المخزون بجامعة كارديف، أن قرابة 800 مليار دولار من أصل 2.5 تريليون دولار من المخزون الأمريكي في نهاية عام 2023 مصدرها تكاليف النقل والاستهلاك والضرائب والتقادم. ولتقليل ذلك، تستخدم الشركات أجهزة استشعار لتتبع كل منتج وإنشاء خرائط تفصيلية لسلاسل التوريد، والتي يمكن تشغيلها بعد ذلك من خلال أنظمة تحليلية تنبؤية معتمدة على الذكاء الاصطناعي للحد من فترات التوصيل والهدر. وعلى المنوال نفسه، تستخدم عمليات التصنيع المضاف لسد الفجوة في المخزون الناتج عن الاضطرابات غير المتوقعة في العرض والطلب. ويتم تطبيق الدروس المستفادة من الوباء، عندما استخدمت الشركات الطباعة ثلاثية الأبعاد لتسريع تصنيع عناصر مثل أجزاء أجهزة التنفس أو مكونات السيارات في الموقع – على الإلكترونيات الاستهلاكية والصناعات الأخرى. ورغم أن هذا لا يدعو بالضرورة إلى تقريب مكان الإنتاج، فمن الواضح أن الشركات لم تعد ترغب في وضع كل ما تملكه في سلة واحدة. فنهج «الوقت المناسب» آخذ في التحول إلى نهج «من باب الاحتياط»، ما سيكون له تداعيات واسعة على كيفية عمل الشركات العالمية. النقطة الثالثة والأخيرة: لدي شعور قوي بأن بعض الشركات متعددة الجنسية بدأت تجد فرصاً في خضم كل الأزمات الحالية. ففي أعقاب الأزمة المالية عام 2008، قامت البنوك بإزالة بعض المخاطر من ميزانيتها العمومية، لكنها لم تعد النظر أساساً في نماذج أعمالها. والواقع أن البنوك التي قد يحول كبر حجمها دون إمكانية انهيارها باتت أكبر، مع زيادة التركيز داخل الصناعة، إلى جانب مستويات الدين الخاص. وكان أحد أسباب ذلك هو أن الحكومات لم تغير نماذج عملها كذلك – فخفض أسعار الفائدة والتيسير الكمي حلا مشكلة الديون بمزيد من الدين. ولكن هذه المرة، ثمة شعور واضح بحدوث تغيير حقيقي في اتجاه الاقتصاد السياسي حول العالم. وهذا بدوره يجبر قطاع الأعمال على تغيير طريقة تفكيره وعمله على أرض الواقع. وبقدر ما تصبح الشركات أكثر إنتاجية واستدامة وكفاءة وحساسية للسوق نتيجة لذلك، سيكون ذلك نقطة إيجابية لكل من وول ستريت وماين ستريت. وتكمن العقبة في الفجوة العالمية/ المحلية التي لا تزال قائمة بين الرؤساء التنفيذيين وعملائهم وعمالهم العاديين. وتناولت جلسة مشوقة كيفية تحقيق البلدان القادرة على تفادي التدهور ذلك من خلال وحدة القصد فيما بين مواطنيها. لكن ذلك يتطلب مشاطرة هذا الهدف بين النخب والأفراد العاديين. وفي الولايات المتحدة، يبقى وضع تعريف مشترك للصالح العام بعيد المنال، كما هي الحال في العديد من الدول الأخرى. تابعوا البيان الاقتصادي عبر غوغل نيوز كلمات دالة: FT Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :