التقويم الهجري وافق يوم الأحد الماضي احتفال المسلمين برأس السنة الهجرية، أعاده الله على العالم أجمع بالسلام والخير للإنسانية جمعاء، وأنتهز هذه الفرصة لأهنئ الكويت وشعبها بهذه المناسبة، وقد خصصت مقال اليوم للتقويم الهجري الذي كان من أمور تنظيم الحكم وشؤون الحياة في المجتمعات الإسلامية التي اتخذها سيدنا عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه، في فترة خلافته. وكانت سنة 523 ميلادي هي السنة التي أقر فيها المسيحيون التقويم الميلادي، بدءاً من ميلاد المسيح، فقد دعا الراهب الأرميني ديونيسيوس إلى أن يكون ميلاد المسيح هو بداية التقويم، ووافقه على ذلك مجمع القديسين والقساوسة والرهبان. وجاء دور المسلمين في تقويم لهم عبر رسالة بعث بها أبو موسى الأشعري أمير البصرة إلى سيدنا عمر بن الخطاب يسأله «يا أمير المؤمنين تأتينا الكتب وقد أُرخ شهر شعبان مثلا ولا ندري هل هذا الشهر في السنة الماضية أم الحالية». ولم يجد سيدنا عمر بن الخطاب بأساً في أن يدعو الصحابة إلى التشاور في هذا الأمر بتقرير تقويم سنوي للمجتمع الإسلامي. ورفض سيدنا عمر وغيره من الصحابة ما اقترحه البعض بأن يؤرخ التاريخ والتراث الإسلامي بميلاد سيدنا، محمد عليه الصلاة والسلام، تعصباً للنبي واعترافا وإقراراً بعظمته، كما فعل الراهب الأرميني ديونيسيوس وغيره من قساوسة ورهبان، إذ اعتدّوا بتاريخ ميلاد المسيح في بدء تقويمهم السنوي، وكان ما أجمع عليه الصحابة هو اختيار شهر هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بصحبة أبي بكر في غار حراء. وبعد التشاور بين الصحابة، ومنهم سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا علي بن أبي طالب، اتفق الجميع على اختيار غرة المحرم التي صادفت في تاريخ هذه الواقعة 19/ 4/ 632 ميلادية، فضلا عما سطرناه من أثر هذه الواقعة التاريخي على التاريخ الإنساني كله، فهو الشهر الذي عجز فيه أبرهة الأشرم وأصحابه وأفياله عن هدم الكعبة، وأرسل الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، في السنة التي أصبح يسمى بعام الفيل. وفي هذا السياق يقول المولى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». (التوبة-40) ولم تكن هجرة النبي وسيدنا أبي بكر إلى المدينة، فراراً أو هرباً من بطش قريش، وكانت القبائل قد تآمرت واتفق أشرافها وساداتها على أن قتل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يُجمع من كل قبيلة واحد من فرسانها ليقتلوه جميعا، فيصبح دم محمد متفرقا بين القبائل، فلا يملك بنو هاشم الثأر لدم محمد من كل القبائل، بل كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لاستكمال دعوته في نشر الإسلام، وقد قال قالته المشهورة لعمه أبي طالب حين نقل إليه دعوة قريش بأن يترك دينه الذي يدعو إليه: «يا عمَّاهُ، واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني والقمرَ في شمالِي علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه ما تركتُهُ»، وكان المشركون قد حمّلوا أبا طالب رسالة إغراء للنبي بالمال والشرف والملك، لعله يرجع عن الدين الذي جاء به أو يتنازل عن الحق الذي يدعو إليه. هذه الهجرة للمدينة ومنها انتقلت جيوش المسلمين في الفتوحات الإسلامية ليصل الإسلام مكة والطائف وشبه الجزيرة العربية كلها وفارس والإمبراطورية البيزنطية والرومانية حتى وصل المسلمون الى مشارف فرنسا وحدودها. شهر المحرم حافل بوقائع دينية وتاريخية، نذكر منها: - إنه الشهر الذي هاجر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبو بكر. - فيه أول هلال عقب بيعة العقبة عندما ذهب أهل يثرب إلى مكة لمبايعة الرسول. - هو الشهر الذي أصبح فيه بيت المقدس القبلة لمدة 17 شهراً في بداية الإسلام ثم تحولت الى الكعبة في العاشر من هذا الشهر. - وهو الشهر الذي استشهد فيه الإمام الحسين بن علي في موقعة كربلاء. - وهو الشهر الذي نجا فيه نوح عليه السلام من الطوفان. - وهو الشهر الذي رفع فيه إدريس عليه السلام الى السماء الرابعة. - وهو الشهر الذي جعل الله فيه نار النمرود بردا وسلاما على إبراهيم. - وهو الشهر الذي رد فيه المولى عز وجل الى يعقوب عليه السلام بصره. - ورد لسليمان عليه السلام ملكه. - ونجا النبي موسى عليه السلام وقومه من فرعون. - ورفع عيسى عليه السلام إلى ربه. فهو شهر حفل بكل هذه الوقائع التاريخية والدينية والسياسية لتؤهله لأن يتبوأ شهور السنة الهجرية الاثني عشر. انفتاح سيدنا عمر على الآخر والواقع أن سيدنا عمر، رضي الله عنه، كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه»، وهو الملقب بالفاروق لأنه كان دائما يفرق بين الحق والباطل، وفي هذا السياق لم يغب عنه في كل ما يتخذ من قرارات مواجهة ما يجد من حاجات الناس ومصالحهم المشروعة حتى لا ينزل الضيق والحرج بالناس، وحتى لا يصاب الفكر الإسلامي بالجمود ويوصم الإسلام بالعجز عن تحقيق ما يجلب النفع لهم أو يدفع الضرر عنهم، وهو صالح لكل زمان ومكان. وانطلاقا من هذا الفكر المنفتح لدى سيدنا عمر فإن الوقائع والأمور التي ليس لها حكم شرعي ثابت في القرآن والسنّة فإنه يضع من الحلول والتشريعات ما تقتضيه المصلحة. وفي سياق التقويم الهجري فقد اجتهد ومن وافقه من الصحابة في أمرين: 1– تقرير التقويم السنوي الإسلامي بما فيه من الحفاظ على التراث الإسلامي والتذكير به، ولو كان الغرب المسيحي قد سبقنا الى تقويم ميلادي مسيحي دون أن يأبه لما كان يقوله البعض من الأولين ولا يزال يتردد حتى الآن، من أن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة، وأن التشبه بالنصارى كفر. 2– عدم إسناد بداية التقويم الإسلامي الى ميلاد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لمجاراة التقويم المسيحي الذي أسند بداية التاريخ الى ميلاد المسيح عليه السلام، بالرغم من اعتزاز الصحابة بمكانة الرسول في قلوبهم وعقولهم وأفئدتهم، وبالمنزلة الرفيعة للرسول صلى الله عليه وسلم سيد الخلق جميعا. وقد قال سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» (التوبة:36). وعن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مشاركة :