في ظلال الإسلام: تجديد الخطاب الديني في تفسير الآية الكريمة 59 من سورة النساء ‏(1-3)

  • 8/18/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

نشأة الدولة الأولى في الإسلام عندما أنشأ النبي (ﷺ) الدولة الأولى في الإسلام، كانت دولة مدنية، وكان النبي (ﷺ) قد جمع بين ‏السُّلطة المدنية في إدارة شؤون الحُكم والحرب، وبين السُّلطة الدينية، فيما كان ينزل عليه من وحي، وما ‏كان يصدر عنه من أقوال ‏وأفعال وتقريرات، تفصيلاً وبياناً وتفسيراً لآيات القرآن البيّنات التي نزلت عليه. ‏ وقد نزل على نبي الله ورسوله (ﷺ) أمر إلهي (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، أي في أمور الحُكم والحرب، لا فيما نزل عليه من وحي. وهذه الآية الكريمة ‏يقوم على أساسها مبدأ سيادة الأمة، الذي لم تعرفه ‏البشرية إلا في القرن السادس عشر، بعد عشرة قرون من نزول القرآن، ولتكون الشورى النبتة الأولى ‏الإلهية للحُكم الديموقراطي.‏ وكان الرسول (ﷺ) يجيب المؤمنين عندما يسألونه: أهو وحي ‏من عند الله أم من عندك؟ وكان الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم، يجيب بما أُنزل عليه من وحي أو بما كان من عنده ورأيه ويحظر على كل مَن ولَّاه أن ينتحل لنفسه ذمة الله أو إنزال حكمه حكم ‏الله، قائلاً لكل ‏والٍ: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل ‏لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم ‏أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، ‏وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزل ‏على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدري أتصيب حكم الله ‏فيهم أم لا».‏ ولا يتحرج الرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما كان يحتكم إليه الناس، إذ يقول: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب... فمن ‏قضيت له بحق أخيه فقد أقطعته جمرة من نار، فلا يأخذها».‏ الخلافة الراشدة وجاء من بعده أبوبكر، رضي الله عنه، ‏ليكون خليفة للرسول في السلطة المدنية بالحكم، وقد انتهت ‏السلطة الدينية للنبي، صلى الله عليه وسلم، بخطبة الوداع التي تلا فيها قول الله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً»‏. وخطب الخليفة أبوبكر بعد مبايعته ‏بالخلافة، ليقول للناس: «إن أسات فقوّموني». ويأتي عمر بن الخطاب بعد مبايعته بالخلافة، ليقول للناس: «إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموني». وكان سيدنا عمر، رضي الله عنه، يأبى أن يُقال عن رأيه إنه مشيئة الله، ‏وانتهر بعض جلسائه لأنه زعم ‏ذلك، قائلاً له: «بئس ما قلت: هذا ما رآه عمر، إن كان صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر، ‏لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة». (الديموقراطية في الإسلام - عباس محمود العقاد - دار المعارف ‏‏الطبعة السادسة، ص60)‏. إلا أنه، وفقاً لما رآه عميد الأدب العربي د. طه حسين، لم يكن لأبي بكر وعمر قبل خلافتهما من الثراء ما كان لعثمان، فهما إذاً لم يغيِّرا من سيرتهما (من زهد وتقشف)، بل تشددا على أنفسهما بعد الخلافة تحرجاً وتأثماً. ويضيف د. طه حسين أن سيدنا عثمان لم يكن يرى فيما يظن أن للمسلمين الحق في أن يراقبوه، فضلاً عن أن يعاقبوه، فهو قد أعطى العهد الذي أعطاه، وهو مسؤول عن هذا العهد أمام الله، لا أمام الناس، وعندما قامت معارضة لحكمه، وطلب الناس إليه أن يخلع نفسه – قال لهم – (ننقله عن د. طه حسين): «ما كنت لأخلع قميصاً قمصنيه الله عز وجل، ولأن أقدم على ذلك وتضرب عنقي أهون عليَّ من أن أنزع سروالاً سربلنيه الله عز وجل». ومن هنا بدأ في عصر المسلمين، إطلالة لتفسير جديد للآية الكريمة «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» من كثير من المسلمين الذين عاصروه حتى حين ينحرف عن القصد أو يجور عن الطريق، وكانوا يؤثرون إن أصابهم من الإمام ظلم أن يحتملوا هذا الظلم في الدنيا ليثابوا عليه في الآخرة، وهو ما يعكس شدة الإيمان عند هؤلاء الناس. خلاصة القول أن النبتة الأولى للالتواء في تفسير الآية الكريمة، سالفة البيان، كانت في عهد سيدنا عثمان ـ رضي الله عنه ـ ليتبنى هذه النبتة الملك العضوض. عصر الملك العضوض وينتهي عصر الخلافة الراشدة، ليأتي العصر الأموي مصحوباً بنفر من علماء الدين، وقد ‏أصبحوا هم والشعراء من حاشيتهم، ليفتي هؤلاء العلماء للحكام والولاة بأن طاعة الناس لهم فريضة إلهية على سند من قول المولى عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي ‏شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (سورة النساء: 59) فيأتي أحد أمراء المؤمنين في هذا العصر، وهو عبدالملك بن مروان، ليقول للناس بعد أن تبوأ سدّة الحكم: «من قال ‏لي في مقامي هذا اتق الله قطعت رقبته». ويقف الحجاج ليقول لأهل العراق، وقد أوفده أمير المؤمنين ليحصل على مبايعتهم: «إنني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لقاطفها». ويأتي بعد العصر الأموي العصر العباسي، ‏ثم يليه العصر العثماني على ذات النهج ـ من سفك الدماء وقتل الأبرياء بحكم السلطة الدينية التي يملكها الحكام، والتي لم يكن هؤلاء الحكام أنفسهم يؤمنون بها إلا طمعاً في الاستبداد بالحكم وبالناس، فقد انقلب ‏بعضهم على بعض، وعزل بعضهم بعضاً، أو قتل بعضهم بعضاً، وأصبحوا كالقياصرة والأكاسرة يقيمون في قصور منيعة. وقد تناسى هؤلاء القياصرة والأكاسرة من حكام هذه العصور قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع: ‏‏»أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم». انقلب السحر على الساحر وينقلب السحر على الساحر في العصور الثلاثة وما بعدها، لتخرج الجماعات المعارضة للحكم الاستبدادي لهؤلاء الملوك وقد نخر سوس السمع والطاعة داخل ‏تنظيماتها، من المؤمنين بها وبرسالتها في الخروج على طاعة الأمويين والعباسيين وليمتد مبدأ السمع والطاعة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية إلى الجماعات الدينية السلمية والتي خرجت منها بعد ذلك جماعات مسلحة فضلاً عن جماعات التكفير والهجرة لتقتل كل من يخرج على طاعتها، ليمتطي أحدهم (عبود الزمر، بعد خروجه من السجن عقب ثورة 25 يناير في مصر، تنفيذاً للعقوبة المحكوم بها عليه في ‏جريمة اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، يرحمه الله)، شاشات التلفاز، ليقول للمذيعة: «إني فعلت ما فعلت تنفيذاً لأمر أمير الجماعة الذي تجب عليَّ طاعته، فإن كان ما فعلته خطأ، فإن المسؤول عن هذا الخطأ أمام الله هو أمير ‏الجماعة». ويحل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين رئيس الدولة من قسمه بالسمع والطاعة، بعد انتخابه رئيساً لمصر، دون أن يحل سائر أعضائها من هذا القسم، وقد كوَّنوا حزباً هو حزب الحرية والعدالة، ليعمل في ‏ساحة العمل السياسي، وقد نافس الأحزاب الأخرى في الانتخابات البرلمانية، لشغل مقاعد المجلس التشريعي وحصل على أغلبها. وهو ما يفرض على الأمة الإسلامية وعلمائها ومفكريها وغيرهم من المجتهدين الذين يدعون إلى ‏تجديد الخطاب الديني إعاده قراءة آية الطاعة لله وللرسول (59 من سورة النساء) لبيان المقصد من ورود عبارة «وأولي الأمر منكم» بعد الطاعة لرسول الله، وبما لا يتناقض أو يتعارض مع مبدأ الشورى، والذي خرجت من ‏رحمه في العالم كله جميع الأنظمة الديموقراطية المباشرة وغير المباشرة، وإن تنكرت هذه الأنظمة للإسلام بوجه عام، ولهذا المبدأ بوجه خاص، وقد ناصب البعض من علمائنا ومفكرينا الديموقراطية العداء، وليضيء الإسلام بنوره في الشورى والعدل والحرية والمساواة والإخاء سماء العالم الإسلامي، بل سماء العالم كله، وقد نزل الإسلام هدى للعالمين، ‏وأصبح تجديد الخطاب الديني في تفسير هذه الآية تكليفاً شرعياً على كل مسلم مجتهد أمام الهجمة الشرسة على الإسلام والعداء له، للتذكير بأن الله لا ترقى إلى طاعته الإيمانية التعبدية ‏المطلقة زماناً ومكاناً طاعة الناس لأي مخلوق، ولو كان من أولي الأمر، وهي طاعة سياسية ونسبية في الزمان والمكان، وللتدليل على أنه لا سلطة دينية بعد عصر النبوة، ولا طاعة لمخلوق بعد ‏وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن طاعة الله ورسوله جزء لا يتجزأ من الإيمان بالله واليوم الآخر، ولتأكيد شمول الطاعة لله والرسول من جميع المؤمنين، بما يشمل ‏ويستغرق أولي الأمر الذين تكون طاعتهم لله ولرسوله مضاعفة، راجين من المولى عز وجل أن يوفقنا إلى ذلك في سلسلة من المقالات نبدأها من الأسبوع المقبل... إن كان في العُمر بقية.‏

مشاركة :