هل يزيح الإنترنت الكتاب الورقي كما أزاح هذا الأخير الكتاب المخطوط يدوياً؟ في فيلم وثائقي جذاب (The Book Makers) يستكشف المرونة الرائعة للكتاب من خلال أبعاد وزوايا لم تلحظ من قبل: التكنولوجيا الرقمية حررت الكتاب الورقي من وظيفته الأصلية في نقل المعلومات؛ انتهى الالتزام بنقل قوائم الحقائق والبيانات القديمة بسرعة؛ وتحرر من «عبء القيام بالعديد من المهام التي تؤديها المعلومات الرقمية بشكل أفضل»، لذا فالكتاب في القرن الحادي والعشرين «يولد من جديد تمامًا ويعاد اختراعه»، كما يقول المؤرخ آبي سميث رومسي.. يمكن للكتاب الورقي اليوم أن يفخر بقدرته على التواصل باستخدام الحواس الخمس. لا شك بأن للقراءة من الإنترنت قيمة وفائدة عظيمة وأصبحت القراءة عبره هي المهيمنة، حيث يمكن الوصول إلى ثروة هائلة من المعلومات والمعرفة، والعديد من وجهات النظر حول موضوع محدد مع تنوع الخيارات، وسرعة وصول الأخبار، فضلاً عن تنوع شكل القراءة من لغة مكتوبة ومرئية ومسموعة وأساليب توضيح متنوعة من رسوم توضيحية وصور وفيديوهات.. ربما بعض هذه المزايا تتحول إلى عيوب ليأتي الكتاب في محاولة لسد هذه العيوب ليمنحك تركيزاً أفضل واسترخاءً أكثر، ويقلل من التوتر والقلق والتشتت بين المصادر المتنوعة.. فأيهما أفضل للقراءة السليمة الإنترنت أم الكتب؟ هذا السؤال الذي يتكرر كثيراً، قد لا تكون صياغته مناسبة من حيث المفاضلة بين القراءة من هاتين الوسيلتين، فلكل منهما مزايا قد لا تتوافر في الآخر فيصبحان مكملين لبعضهما وليس متنافسين: الإنترنت سريع والكتب بطيئة، الأول يوفر الوقت والثاني يوفر الاستيعاب.. محتوى الإنترنت قصير ومبسط يتم استهلاكه بسهولة بينما محتوى الكتاب عميق وثري بالمعلومات عن الموضوع المحدد. إذا جمعنا أهم ما يُطرح في المقارنة بين هاتين الوسيلتين للقراءة، فلعلنا نجد - إضافة لما ذُكر - أن أكثر ما يتبادر إلى الذهن هو الموثوقية، فالمعلومات في الإنترنت لموضوع معين قد لا تكون دقيقة أو موثوقة وقد تكون مضللة لغير الباحث المختص في ذلك الموضوع، بينما الكتب أكثر موثوقية لأنه في الغالب تمت مراجعتها من المؤسسات قبل النشر، ويؤلفها أو يُعدها مختصون وخبراء في المجال، لكن خيارات الكتاب أقل تنوعاً مما يوفره الإنترنت. إذا كان من مميزات الإنترنت أنه يوفر تحديثاً دائماً للمعلومات ويتم تعديل أو حذف أو إضافة مستمرة، فإن الكتاب يوفر سجلاً للتراث الثقافي الذي يمكنه الحفاظ عليها لتستمتع بها الأجيال القادمة. وإذا كان الإنترنت يوفر خيارات عديدة ويقدم وجهات نظر متنوعة حول موضوع معين، فإن الكتب توفر في كثير من الأحيان فحصًا أكثر تعمقًا وتركيزًا لذلك الموضوع، بينما قد يكون الإنترنت في كثير من الأحيان مصدرًا للتشتيت، حيث يسحب القارئ إلى مواضيع أخرى بعيدًا عن المحتوى الذي يحاول التعامل معه.. إضافة لوفرة المشتتات في الإنترنت من إعلانات براقة ومزعجة، وأيضاً ما يصل من إشعارات وتنبيهات رغم أنها مهمة لكنها تجعل من الصعب على القارئ التركيز على موضوعه.. البعض يطرح البُعد العاطفي الرومانسي أو الحنين (نوستلجيا) الذي تثيره الكتب في النفس حيث تعيد القارئ إلى وقت ومكان محددين في حياته، وهو أمر يصعب تحقيقه من خلال المحتوى عبر الإنترنت، فحمل الكتاب والاسترخاء مع القهوة أو الشاي، ومع شكل الورق والغلاف يمكن أن يعيد الذكريات والعواطف من تجارب القراءة السابقة.. كما أن لمس الكتاب وتقليب صفحاته، ووضع علامات على فقراته، تضيف مستوى من الاتصال الشخصي والتقدير لا يمكن لجهاز رقمي محاكاته، ويمنح القارئ إحساسًا بالملكية والفخر بمجموعته الخاصة، حسبما يجده البعض في الكتاب؛ لكن أيضاً الإنترنت يمنحك فرصاً للمشاركة وصنع المحتوى بما يضفي عليك إحساساً بالملكية الفكرية الخاصة بك. مقابل عشاق الكتاب الورقي، يرى آخرون أن هؤلاء العشاق لا ينفكون يمجدون الورق بحنين وذكريات جميلة جعلت حتى رائحة كربون الحبر عطرية! «إن عشاق الطباعة ببساطة يخلطون بين الطبق وبين الطعام» كما يقول دوجلاس آدمز. هذا البعد العاطفي مجرد حنين لماض لن يعود مثلما كان الحنين للكتاب المخطوط بعد ظهور الكتاب المطبوع، وهذا الحنين يرجع للاعتياد على هذا النمط من القراءة، كما أن الكتب كانت جزءًا أساسيًا من الثقافة الإنسانية لعدة قرون، ولعبت دورًا مهمًا في تشكيل المجتمعات وتطوير المعرفة الإنسانية ويظن البعض أن ثمة مسؤولية أخلاقية لتفضيلها على الإنترنت.. أيهما أفضل للقراءة الإنترنت أو الكتب؟ تظل الإجابة خياراً شخصياً، وإذا كان الإنترنت هو المهيمن في كل الأحوال مهما كان تفضيل الشخص، فإنه ينصح بقراءة الكتب بين حين وآخر لأنها كما يُزعم تساعد على الاسترخاء والتخلص من التوتر، وتحسين نوعية النوم.. ومن يرغب في ذلك في ظل هيمنة الإنترنت فثمة إرشادات بأن يخصص قليلاً من الوقت كل يوم للقراءة من كتب تثير اهتمامه وأن يكون المكان مناسباً ومريحاً للقراءة الهادئة دون مقاطعة.. هذا سيجعل القراءة أكثر متعة.
مشاركة :