لكلِّ نفس بشرية عالم آخر تسبح فيه وتحلّق، تلجأ إليه -بين الفينة والأخرى- لتضع نفسها في واقع افتراضي، تتمناه وترغب أن تناله، يسمى «أحلام اليقظة» «Day Dream»، وهي حالة خيالية، ينقل الذهن النفس الإنسانية إليها، ويضعها في واقع افتراضي، لا أثر له في الواقع، يريدها أن تحقق رغباتها الدفينة؛ فينجح في وضعها في هذا العالم الخيالي لفترة محدودة، لكنها ما تلبث أن تعود لواقعها لتجده سرابًا لا أثر محسوس له في واقعها، الذي تعيش فيه!!... فأحلام اليقظة تكون -عادةً- استراحة ذهنية، للتخفيف من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، التي تعاني منها النفس. وقد تصبح أحلام اليقظة مرضًا مزمنًا، يسرح العقل الباطن -بصورة دائمة- فيها حتى يرضي النفس الإنسانية، ويحقق لها أهدافها وأمنياتها بصورة وهمية، لأنها لا تستطيع التقدم في حياتها؛ فيلجأ العقل الباطن لهذه الأحلام الموهومة حتى يزيل القلق والتوتر!!... فالإنسان قد يلجأ إلى أحلام اليقظة -بين الفينة والأخرى- حتى يخرج من حالة الانغلاق التي يعيش فيها، ويخفف من حالة الضنك النفسي... فقد يكون -هذا الحالم- من المعسرين في رزقهم؛ فيحلم بالثراء والمال!! أو قد يكون من الفاشلين في عملهم؛ فيحلم بحصوله على مراتب وظيفية عليا!! وقد يكون من المغمورين في حياتهم الاجتماعية والوظيفية؛ فيحلم بالشهرة وبلوغ المجد!!... وغير ذلك كثير!! وللأسف؛ فإن الاستغراق في الأحلام يستنفد جزءًا كبيرًا من طاقة النفس الإنسانية، والإسراف فيها يؤدي للإصابة بحالة من العصاب المرضي؛ فلا يعود لدى المرء القدرة على التمييز بين الواقع والخيال؛ فينصرف عن واقعه بالكلية، ويصبح الخيال عالمه الوحيد الذي يعيش فيه، يرفض مغادرته، ويجعله محور حياته كلها!!... ويعد «الإحباط» Frustration السبب المباشر لأحلام اليقظة المرضية، نتيجة إخفاق الإنسان في حياته، وما يصاحبه من شعور وجداني بالانكسار والهزيمة. في الحقيقة؛ ليس كل أحلام اليقظة مرضًا، فالكثير من الناس يلجؤون إليها لكسر الجمود في حياتهم، لكنهم سرعان ما يعودون إلى واقعهم، ليمارسوا أعمالهم، بينما الاستغراق الشديد فيها يستنفد طاقة نفسية كبيرة؛ فتصبح النفس عاجزة عن التمييز بين الواقع والخيال. ويعتقد البعض بأن للعقل الباطن تأثيرًا على الكون الذي يعيش الإنسان فيه، وأن الأفكار عبارة عن ترددات وموجات تخرج منه، وتنطلق في الكون الفسيح، ولكل فكرة مقدارها وقوة تأثيرها؛ فتجذب إليها أقدارًا مشابهة؛ فتتحول الأحلام إلى واقع وإلى حقيقة، وهذا يسمى «قانون الجذب»، ويدعم هذه النظرية ما وصل إليه الكثير من العلماء والعباقرة الذين بدأت أعمالهم بأحلام يقظة، ثم تحولت إلى منافع ينتفع بها الناس، سواء في الأدب أو العلوم التطبيقية، فمعظم المخترعين الكبار كانوا يعيشون في أحلام يقظة، انتهت بمنجزات مفيدة هادفة، استفاد منها البشر على مدار التاريخ... والإسلام لا يرفض فرضية الفكر الإيجابي في تحقيق الأمنيات، لكنه يربطها بقدر الله، الذي يقدر الأمور، فلا شيء يحدث للإنسان استقلالًا عن تقديره: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير:29).. بالمقابل؛ فإن التفاؤل والعمل ضروريان لجلب الأقدار السعيدة؛ وقد ورد في الحديث الشريف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمناه؛ فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» (رواه أحمد)؛ وفي الحديث دعوة حتى يتمنى الإنسان ما يفيده في دنياه وآخرته؛ فقد يتحقق له بعض ما يتمناه، وهذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- يقول: «إن لي نفسًا تواقة، ما تمنت شيئًا إلا نالته، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك، فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فنالتها، وتاقت إلى الخلافة فنالتها، وأنا -الآن- أتوق للجنة وأرجو الله أن أنالها». ويمكن القول بأن أحلام اليقظة جزء من طموح الإنسان وتطلعاته وآماله، فأكثر الناس يضعون في مخيلتهم تصورًا خياليًا لما يسعون إليه؛ فيفشل المتعجلون إلى تحقيقها، دون المرور بمراحلها، ويصابون بالإحباط!! كما يخفق الذين يتجاوزون برؤاهم حدود المعقول!!... فأحلام الإنسان وأمنياته عالم رحب واسع، لا حدود له، وهذه الوظيفة الفكرية -في الإبداع والتخيل- ضرورية قبل إسقاطها على الواقع، لكنها تحتاج للمثابرة والجد والاجتهاد، شرط أن تكون واقعية، وغير مستحيلة التحقيق. والإغراق في أحلام اليقظة يمنح الإنسان شعورًا بالرضا، فيعيش في هذا العالم الافتراضي معظم لحظات حياته، فيصبح مدمنًا عليها، يجعلها وسيلته للهروب من الواقع، لأنها تضعه في حالة من الصفاء والسعادة، وقد حقق مبتغاه، ليعود -مرة أخرى- إلى الواقع، ليجده أكثر صعوبة وإيلامًا، وقد أضاع فرص السعي الحثيث لتحقيقها في واقعه الحقيقي.. وهذا الضائع في أحلام اليقظة؛ يفقد وظيفة الانتباه والإحساس بما يدور حوله، ولا يعود يسجل في ذاكرته ما يفعله ويقوله، فشروده الدائم يسبب له النسيان، لأن أحلام اليقظة تأخذ المساحة الكبرى في ذاكرته، وهذا -للأسف- حال معظم الناس في عالم اليوم، يشتكون من كثرة النسيان، وعدم تذكر الأحداث، لأن تسجيل الأحداث يتطلب التركيز والانتباه، ولأنهم تائهون في أحلامهم وضائعون!! وأحلام اليقظة المرضية هي السبب الرئيس في فشل الطلاب وغيرهم من الساعين للنجاح والتطور في حياتهم، لأنها تساهم في هبوط مستوى إنجازاتهم الدراسية والوظيفية؛ فيقل اعتبارهم لأنفسهم، وتتزعزع ثقتهم بها، ليجدوا أنفسهم، وقد دخلوا في مرحلة الاكتئاب والحزن والنكد، فيزداد إحباطهم، وتتعاظم خيبتهم؛ فيعترفون -لاحقًا- بهزيمتهم وعجزهم التام، وهذا قد يؤدي بهم إلى الانتحار، وقد سمعنا عن شباب انتحروا، لأنهم لم يحصلوا على الفتيات اللاتي كانوا يحلمون بالارتباط بهن!! كما سمعنا عن أصحاب ثروات انتحروا، لأنهم كانوا يحلمون بنماء ثرواتهم، لكنها خسرت، فضاعت معها أحلامهم، فألحقوا بها أنفسهم، فلجؤوا إلى الانتحار ليخلصوا أنفسهم من هذا السقوط المريع لأحلامهم!! وقد تزداد حدة أحلام اليقظة، فتصبح «خيالًا عقليًا» Mental Image، كما يحدث عند بعض المراهقين، الذين يقولون بأنهم يرون حبيبتهم، ويسمعون صوتها، رغم وجودها في مكان بعيد عنهم، وهي هلوسات وتخيلات، قد تؤدي بهم إلى الجنون، وفي التراث العربي؛ أطلق الناس على «قيس» لقب «مجنون ليلى» لكثرة ما كان يتحدث عن حبيبته شعرًا، وهي قصة غرام وحب بدأت منذ الصغر بين «قيس بن الملوح» و»ليلى العامرية»، وعندما كبرا، لم يسمح والد ليلى بتزويجها له، لأن قيسًا كان مهووسًا بها، وكانت العادات العربية السائدة تنبذ العشق، ويعاقبون العاشقين بالحرمان من بعضهما، وكان «قيس» يتحدث عن أحلام اليقظة التي كانت تراوده حول حبيبته، ويقول: وللنفس ساعات تهش لذكرها فتحيا وساعات لها تستكينها وأحلام اليقظة ليست -جميعها- مرضية، فالإنسان يفكر -دائمًا- فيما سوف يفعله في يومه وغده، وهي تصورات وتخيلات، لا تعيقه عن العمل، والكثير من الإنجازات العلمية والاختراعات كانت أحلام يقظة في أذهان العلماء، فأصبحت حقائق ملموسة، بسبب جهدهم ومثابرتهم، وقد كان الإنسان يحلم بالسير فوق سطح القمر، وتحقق له ذلك، بعد أبحاث وتجارب علمية كثيرة.. وما أجمل أن يستفتح الإنسان يومه بالدعاء ويقول: «اللهم متعنا -في يومنا هذا- براحة البال، وصلاح الحال، وقبول الأعمال، وأنعم علينا بصحة الأبدان، واكفنا شر الإنس والجان»، ويجب التمييز بين «التفكير» Thinking وأحلام اليقظة، فالتفكير عملية ذهنية يقوم بها الإنسان، يؤديها له عقله، لمساعدته على تحقيق خططه وأهدافه، والوصول إلى رغباته وغاياته، وهو أعلى الوظائف الإدراكية التي يقوم بها العقل البشري، وهي وظيفة لا تستطيع القيام بها بقية المخلوقات سوى الإنسان، ويتعامل العقل البشري -أثناء التفكير- مع المعلومات التي خزنها في ذاكرته، فيعيد صياغتها وترتيبها، للاستفادة منها في اتخاذ القرارات، أو لحل المشكلات، أما أحلام اليقظة فلا هدف لها سوى الهروب من الواقع إلى عالم من الخيال، من دون العودة منها بشيء، يفيد الإنسان في تغيير الواقع.
مشاركة :