الخصخصة ضرورية... لكنها ليست نقلة أسطورية

  • 8/1/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تستحق نتائج الانتخابات البريطانية التي أجريت مطلع يوليو الماضي إلقاء مزيد من الضوء على أبعادها الاقتصادية، إذ أفضت عودة حزب العمال «اليساري» إلى السلطة، بعد نحو 14 عاماً من تولي حزب اليمين المحافظين، لتحولات لافتة، خصوصاً تجاه السياسات الاقتصادية العامة فيما يتعلق بالملكية العامة والتعامل مع الخصخصة ونتائجها. وقبل التفصيل، لا بد من التأكيد أن أحزاب اليسار البريطانية والأوروبية عموماً، بل وحتى الأحزاب اليمينية بالقارة العجوز، بكل ما فيها من سوء وتعصب و«شوفينية» هي أحزاب برامج وسياسات تعمل في ظل المناخ الديموقراطي والمؤسسات المستقرة وتتناول قضايا متعددة بالنظام الاقتصادي من الإنفاق والملكية والخصخصة والضريبة والدخل والنمو مروراً بتعقيدات الهجرة والعمالة والرعاية الصحية، وصولاً إلى تحديات المناخ والبيئة، لذلك نجد أحزاب اليسار الأوروبي متطورة ومنهجية وصاحبة برامج لا علاقة لها بالأحزاب اليسارية العربية ذات الطبيعة الدكتاتورية الدموية أو حتى الأحزاب الشوفينية الغربية يمكن مقارنتها بتيارات وأحزاب يمينية عربية ذات صبغات دينية أو قومية تقدم أطروحات عنصرية بعيدة عن الواقع ولا مبرر حتى تاريخياً أو منطقياً لما تحمله من خطابات أو أطروحات، وكلاهما بعيد عن البرامج والمرونة، بل في كثير من الأحيان يستعرض المشكلة بلا حل... وربما يكون من الإنصاف القول، إن استحالة تداول السلطة في الوطن العربي، وبالتالي عدم امكانية تقديم البرامج وتنفيذها، تعد جزءاً من أزمة مهنية وكفاءة وتطور الأحزاب والتيارات العربية عند مقارنتها بنظيراتها الأوروبية. الأحزاب العربية غرقت بتحيزها للدكتاتوريات والعنصرية ولم تتطور في البرامج والسياسات كنظيراتها الأوروبية تملك وتدخل وعودة إلى نتائج الانتخابات التشريعية البريطانية، فإن قراءة الخطوط العريضة لسياسات حزب العمال في بريطانيا تشير إلى سياسات جديدة على صعيد الخصخصة من المهم رصدها وفهمها، ففي كل الأحوال لن يعني فوز «العمال» أن تتحول بريطانيا إلى التأميم وفق النظام الشيوعي مثلاً، إنما سيكون هناك دور أوضح للملكية العامة وحصة أوسع لوزن الحكومة في إدارة وتنظيم الاقتصاد فبرنامج حزب العمال العائد للسلطة باكتساح انتخابي نادر وألحق بمنافسه حزب المحافظين أكبر هزيمة منذ 190 عاماً، ركّز على مسألة تعزيز الملكية العامة مقابل الخصخصة، لا سيما السكك الحديدية والطاقة المتجددة، بالتزامن مع خطوة غير مسبوقة تمثلت بتدخل حكومي بريطاني لتطويق أزمة أكبر شركة للمياه هي شركة تايمز ووتر التي تبين أنها غارقة في ديون تقترب قيمتها من 20 مليار دولار وتواجه خطر التعثر عن سداد الالتزامات المالية، بالتالي إعلان الإفلاس، وهي التي تزود العاصمة لندن ومساحات واسعة من جنوب إنكلترا بالمياه، مما جعل هيئة تنظيم قطاع المياه (أوفات) تخضع شركة تايمز ووتر لتدقيق شديد على الصعيدين المالي والخدمي، فضلاً عن إعادة تقييم خططها لتحسين الأداء التشغيلي والتسليم والمرونة المالية. إرث ثاتشر وفي الحقيقة فإن النقاشات في بريطانيا تجاه الخصخصة والملكية العامة هي نقاشات مستمرة ومحور ذو وزن في السياسة العامة منذ تولي مارغريت ثاتشر رئاسة الوزراء عام 1979 وإطلاقها برنامج تحول لتحرير الأسواق وبيع ملكيات الدولة في قطاعات الصناعات الثقيلة والنقل والنفط والغاز والاتصالات، مروراً بالضجة الكبرى التي حدثت عند خصخصة شركة البريد الملكية (رويال ميل) والاتهامات الموجهة لحكومة المحافظين قبل نحو 11 عاماً بتقييم الشركة بأقل من قيمتها العادلة، وصولاً إلى إفلاس 3 شركات للطاقة والكهرباء عام 2021 هي «إغلو إنرجي» و»سيمبيو إنرجي» و»إنستروغا» نتيجة أسعار الغاز المرتفعة ببريطانيا، مما أدى إلى اتخاذ الهيئة المنظمة لأسواق الغاز والكهرباء في بريطانيا (أوفغيم) على تحويل مليوني حساب عميل على الموردين الذين تجاوزوا الأزمة. الخصخصة في بريطانيا مسألة نقاش مستمرة رغم ما تحمله مؤسساتها العريقة والمستقرة من جودة إدارة وكفاءة وإمكانيات للقياس والتقييم والتقويم هيئات تنظيم ولعل حادثتي شركة المياه «تايمز ووتر» وإفلاس شركات الطاقة الكهرباء تنبهان إلى دور الهيئات التنظيمية الحكومية في مراقبة السوق ومعالجة مشاكله، فضلاً عن دورها الأسمى في حماية حقوق الدولة والمستهلكين وتوفير البيئة الصالحة للمنافسة بين المشغلين ورفع الكفاءة، ومع ذلك تظل الملكية العامة والخاصة مسألة نقاش لا يكاد يتوقف في بريطانيا بكل ما تحمله مؤسساتها العريقة والمستقرة من جودة بالإدارة وكفاءة وإمكانات للقياس والتقييم وفرص في الإصلاح، بل ودور دافعي الضرائب في تقويم الانحرافات المتوقعة. الحكومة البريطانية تدخلت قبل أسابيع لتطويق أزمة أكبر شركة للمياه تواجه خطر الإفلاس وتوقفت عن تقديم الخدمة استرشاد لا مقارنة وليس على سبيل المقارنة، بل الاسترشاد، فإن التحولات الجديدة في بريطانيا قد تستدعي التنبه إلى أن التوسع بالدعوات في تطبيق الخصخصة في الكويت وتحويل الملكيات العامة، خصوصاً السيادية والخدمية الأساسية كالنفط والتعليم والصحة إلى القطاع الخاص هو أقرب إلى القفز نحو المجهول في ظل ما نعايشه من عقود طويلة بتدهور جودة الإدارة وضعف المؤسسات الناظمة وقصور المنظومة التشريعية التي تضمن المنافسة كعدم سيطرة مشغل واحد على أكثر من شركة بنفس القطاع ملكية مباشرة أو غير مباشرة، فضلا عن القدرة على ضمان كفاءة مستوى الخدمة من عدمه، والأهم من ذلك عدم وجود خبرة متراكمة في مجال الخصخصة في قطاعات صغيرة أو متوسطة كالبريد أو الأندية الرياضية أو.... بل إنه لا أحد من دعاة التوسع بالخصخصة في الكويت، وعلى رأسها الجهات الحكومية، لديه إجابة عن مصير عمالة تناهز 80 بالمئة من المواطنين في القطاع العام ومدى قدرة القطاع الخاص على استيعابهم. ضرورة وعصا لا شك في أن الخصخصة ضرورية لتحقيق فرضيات أبرزها تخفيف أعباء المالية العامة ورفع كفاءة الخدمة وتوفير المزيد من فرص العمل، بل وحتى جذب الاستثمار الأجنبي والتكنولوجيا، لكنها لن تكون عصا سحرية، أو نقلة أسطورية لمعالجة اختلالات الاقتصاد إذا لم تواكبها كفاءة في ضبط الإنفاق وجودة الإدارة وصرامة مع معالجة انحرافات السوق كالاحتكار أو البطالة، أو حتى إخلال المستثمر بالغرض الأساسي من التخصيص وما يترتب عليه من تدهور في مستوى الخدمة... فالتأني في الخصخصة وربطها بمعايير رفع المهنية والجودة والكفاءة ليس رفضاً لها أو نكراناً لأهميتها، إنما رغبة في حوكمتها لتحقيق مقاصدها السليمة.

مشاركة :