ذاكـرة دكان !

  • 8/12/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يفتح دكانه الصغير بمفاتيحه الثقيلة قبل أن تفيق قريتي .. ويوقد أعواد العودة فتغني فيروز اسمينا .. و يداعب ” أتراز ” الدخان فيستعيد ذاكرته المليئة بالعجاج .. يمسح عن نظارته ظلمة الليل ويفتح سجل الأستاذية المكتوب على إحدى دفتيه ورغم ركاكة خطه المتعرج الذي يتجاوز كل الخطوط الحمراء والزرقاء إلا أنه يوفي بالغرض .. وكم من المرات التي يجد مخارج لهذا الخط كما يجيد مخارج طوارئ عند أي قضية قد تعتريه يقول : كتبتُ وقرأتُ ولم ندخل مدارس ولا تعليم سوى كتاتيب ضعيفة ..يتعمد السعال أحياناً كي يزيح عنه الكثير من الأسئلة .. سعاله يشق صمت الحديث وتنهيداته وآهاته تكتب آخر أنفاس العمالة المجهولة والمنهكة .. هناك مازال ينتظر أطفال القرية قبل ذهابهم لمدارسهم ” ساندوتشات ” خلف زجاج الدولاب الخشبي الأصفر وعيون طفولة تراقبه عن بعد طريق القرية الترابي هو الفاصل بينه وبين المسجد القديم دكان العمر واختزال الذكريات والوجوه .. هو قلب القرية المتعب والأكثر نبضاً وحركة وإن شاخ به الزمن ونسته الجغرافيا وأضاعته ذاكرة مسن كما أضاع أحدهم ورقة طلبات أمه وما زالت هناك تنتظر ! هو ذكرى الأجيال العابرة والقاطنة في ذاكرة الأرواح الراحلة فكم من الأجيال عبرت هناك وكم من القصص مازالت عالقة في جدران الدكان والذاكـرة ..! كم من أقدام داعبت كرة القدم هناك، وكم رسائل حب داعبت القلوب هناك .. وكم أحلام سكنت حقيبة الطفولة ولم تتحقق فبقيت جميلة، تستفيق تلك الأحلام كلما هاجت الذاكـرة نحو ذاك الدكان وكلما سقط المطر والشعر والنثـر .. هناك يكتب الحزن خيوط الحكاية وتفاصيل الرواية التي لم يروها دكان قريتي .. حزن يعرف أهله وإن غيبهم الوقت العصيب حزن يرتوي من الرثاء رغم هدوء الأمكنة والقرية التي كنَا فيها ! حزن يتوشَح حداد الخطوات بين كل المساريب الذاهبة نحو الجنوب نحو قريتي التي تسكن الجبال .. ينتابني شعور الطفولة المتشبَث بآخر حكايات العم إبراهيم ودكانه العتيق .. تراتيل تقودني نحو المغيب وآآآآآه من ذاك المغيب !!! تلك الروايات المتدلية فوق رؤوسنا وقد تسمرنا على كراسي الدكان الحديدية الملونة ونحن ننتظر قصصه وحكاياته .. كان دكانه مقهى لكل الأجيال مقهى ثقافي واجتماعي وسياسي ورياضي ومحلل وقارئ جيد للأحداث .. حكاياته التي تتكرر كثيرا ونتكرر فيها كثيرا، ونجد أنفسنا في نقاط التقاء كثيرة منها .. تنقطع الحكاية بسبب ضحكة خافتة أو صرخة غير محسوبة فيرمقنا بعينه ويواصل حكاياته وهو يتلذذ ببحثنا الدائم عن الحل .. كان يوقد فينا حماس الخاتمة والحل فيمنحنا أمل الحالمين بتلك الحلول بين دهاليز شخوصه وتقليدهم وكأنك تراهم أمام عينيك يتحدثون في ميلاد عقدة القصة حتى إذا لمحنا وقد قيدت وتعقدت تفاصيلها أوجد لنا حلاً يحل عقدة القصة فتكون حبكة الذهول الحائرة على شفاهنا، فتجدنا بين مؤيد ومعارض كان يردد وهو يضحك قائلاً : قصة وانتهت ” فلا تتعبوا أنفسكم ” .. يعود بي الحنين لحياته التي عاشها قبل ذهابه لجدة، والتي غيرت الكثير من ثقافته وتعاطيه مع الحياة ؛ بيد أنها لم تغير أصالته ولهجته رغم تعمده نطق بعض الكلمات الحجازية بل ويتفنن في سردها وسرد الكثير من أمثالها، ولعل أربعة عقود من عمره كانت كفيلة أن تمنحنا لذة المكوث والإستمتاع ” بقفشاته ” وحكاياته وثرثرته اللذيذة .. هو الوحيد القادر على صناعة مقادير الحليب الساخن شتاءً وعصير البرتقال صيفاً وصناعة الكثير من دهشة الفضول وقصص الأولين والآخرين .. منذ زمن بعيد وهو يمنحنا اهتماماته، فكان يلقي علينا تجاربه وآراءه كان دعوة للانفتاح والإشراق والإنعتاق من الظلامية القاتمة نحو طرح كثير من الآراء والحوارات والتساؤلات والمقارنات والمفارقات والتناقضات التي لا تنتهي .. ثمة حزن يأخذ من الطفولة دموعنا ويوجع الذاكرة .. هناك نحو ألقابه التي كان يداعبنا بها دوماً ويسقط علينا سخريته البريئة وأغنياته كان أباً لكل تلك الأجيال ومعلماً ومربياً أيضاً.. يأتي هذا العام حزينا وقد رحل عن الدنيا ولكن صوته مازال يسكن مساريب قريتي !! رحل بسلام رغم أن دكانه كان فصلاً مثيراً للجدل والنقاش والاختلاف والاتفاق .. كل تلك الأجيال تستعيد ملامحه وعصاه وثوبه الأخضر وساعته الحديدية وباب دكانه الأحمر ومن يجرؤ على نبش عش الحكاية غيره ؟ ومضة : كثرت تلك القصص والأساطير عن حكواتي قريتي فالكثير مازال يذكره والكثير يراه حتى أن أحدهم رآه البارحة يفتح دكانه .

مشاركة :