عبارة صغير مضافة إلى عنوان معرض عن "روسيا والفنون" في National Portrait Gallery جذبت جمهور العرض، تلك العبارة السحرية تقول: "عصر تولستوي ودوستويفيسكي". تحضر في معرض البورتريت الذي يتوج نشاطات المرحلة الطليعية، رسومات مجموعة من الأدباء وعباقرة الموسيقى ومخرجي المسرح وممثليه، مثل أطياف في حلم ليلة صيف روسية. واقعية معظم الأساليب، وشدة وضوح الصور، والخلفية التي يتركها الرسامون كلمسات عن البيئة، تبدو وكأنها حضور مضاعف لتلك الحقبة الراسخة في ذاكرة الثقافة العالمية، حقبة روسيا في مخاضها العظيم حيث كانت تتصدر تيارات مختلفة في فنون العالم. لم يكن الفوتغراف متداولا في القرن التاسع عشر ولا منتشراً مطلع العشرين، فكان الرسم هو التعويض الأنسب عن فكرة إيقاف الزمن، حيث الوضوح الباهر للتاريخ الموارب في الإيماءة والنظرة ولغة الجسد. ولعل من المتعارفات في الحياة الفنية أن مهارة الرسام تُدخل الشخصية المرصودة دائرة الخلود، ولكن الشخصيات المهمة تقوم بدور معاكس، فهي تدخل الرسامين في دائرة الاهتمام. وفي ذلك التوقيت الروسي الساخن تتوفر الصيغتان: حرفية الرسام وما تركته الشخصية من آثار متجددة عبر العصور. هناك صورة واحدة لتودور دوستويفيسكي، رسمت له وهو في الخمسين، الصورة الأكثر شيوعا رغم توفر الفوتغراف له. يبدو دوستويفيسكي مطرقاً، شبه أصلع بلحية وشارب وقفطان شتوي، وهي كل ما تبقى منه خارج الروايات والقصص. نكتشف أن تلك الصورة التي رسمها وقتذاك فاسيلي بيروف العام ، كانت اقرب الى لقطة تكّثف تاريخ هذا الروائي العظيم. فقد استطاع الفنان وضعه في قلب انتباهاته، ساهماً في بحران أفكاره، لا ينظر في قلب الصورة كما يفعل سواه، بل يرمق الأرض كمن يشغله لغط الحيوات التي يتخيلها. تفصيل صغير تحت العينين، يشي بإجهاده العصبي، ومرض الصرع الذي تحول عند فرويد إلى مادة دراسية عن العلاقة بينه وبين الإبداع. وتتحدث زوجة دوستويفيسكي عن تاريخ تلك اللوحة حيث زارهم الرسام بتكليف من متحف الفنون العام ، وقضى فترات مع دوستويفيسكي يحاوره ويستثيره ويصغي لانفعالاته، ثم غادر فجلب تلك اللوحة. ولكن بورتريتة بيوتر تشايكوفسكي عبقري الموسيقى، تشي بترف وجمال الارستقراطية الروسية. رغم النظرة الغاضبة في عينيه سخطاً على الدنيا، غير ان تشايكوفسكي يظهر كأمير في بلاط الفن الخيالي. رسم اللوحة الأوكراني نيقولاي كوزنسوف، في السنة التي انتحر فيها الموسيقار . هناك في هذه اللوحة هالة خفية تشع من خلال ذلك الوجود المعذّب الذي دفع الفنان إلى الانتحار، فأشاع مقربون انه مات بالهيضة، فقد كان مصاباً بالاكتئاب بسبب مثليته الجنسية، شهد انتحار عشيقه، وخاف على سمعته من محاكمة محتملة. في روسيا التي كانت في ذلك الوقت تعيش التطرف إلى اقصاه بين إلحاد وطهرانية مسيحية، بين ثروات فائضة واقطاع مهيمن، كانت الحياة الفنية والأدبية قد بلغت وهجها الاقصى، فحسمتها الثورة التي غيرت وجه العالم. ولعل آنا اخماتوفا الشاعرة التي ادركت الثورة، تعتبر من أيقونات عصرها، كانت بين الأدباء الروس بهيئتها الغرائبية ووجهها الذي يشي بأصولها التتارية، أكثر الأدباء الروس التي صورها التشكيليون في لوحات خالدة. ورغم عزلتها سنوات طويلة في منفاها الداخلي، حين منعت من السفر او هي رفضت أن تغادر في الفترة الستالينية، ولكنها كانت قبلة الرسامين في كل المراحل. التقت في باريس أشهر رسام حداثي لفن البورتريت، الايطالي أميدو موديلياني الذي ربطتها به صداقة، ورسم لها بعد عودتها الثانية الى عاصمة الفن، ما يزيد على العشرين لوحة خلدت جمالها الخاص، بإطلالتها الاستثنائية وأنفها المعقوف وحزن عينيها. كان موديلياني مغرما بالحضارة المصرية القديمة، مدمنا على المكوث في المتحف لدراسة هيئات الفراعنة، فأسقط اشكال نسائهم عليها. وعندما تزوجت بوريس أنريب الفنان والشاعر كتب عنها أزيد من ثلاثين قصيدة ورسم لها مجموعة من البورتريهات، ولكن البورتريت الأشهر لها رسمه ناثان آلتمان في صورة نادرة وهي ترتدي فستانا ازرق وتلف وشاحا أصفر على كتفها. رشاقة بنيتها وتكوينها الغرائبي ومظهرها ملابسها ساعدت الرسام على تجسيد لمسات من تكعيبية مطلع القرن العشرين، ولعل هذا البورتريت أجمل ما تظهر فيه من سمو ورفعة. ولكن معرض الناشنوال بورتريت في لندن يعرض اللوحة التي رسمتها أولغا كاردوفسكايا وهي واحدة من البورتريهات الرائعة التي وضعتها في إطار أسطوري، فقد رسمت بروفايل لامرأة طالعة من أنوار عصر النهضة، مع ردائها وشالها الأحمر وكتاب تحمله، ساهمة في أفق بين السماء والارض. اما تولستوي فقد قدم المعرض بورترية وحيدة له رسمها نقولاي جي العام ، وهي تظهر المهابة والروحانية العميقة التي تمتع بها تولستوي غب رحيله من بطرسبرغ. هناك نور يشع من حوله، ليس كحلية مضافة، بل كضوء يأتي من نوافذ روحه. وبين الأعمال اللافتة برتريت لصانع الرواية الروسية وحكاية الحداثة والجيل المثقف، ايفان تورغينف الذي عاش مرتحلا ونشط في غير مكان من اوكسفورد حتى باريس. اللوحة رسمها إليا روبين وكان هذا الرسام في بدايته ساخطا بسبب قلة فرصه، ولكنه سجل حضورا لافتا قبيل الثورة وبعدها. ولم تكن صورة تشيخوف غريبة على رواد المعرض فهي الصورة المكررة له حيث يضع يده على خده مع نظارة بعين واحدة يتدلى شريطها على وجهه. رسم هذه اللوحة أوسيب براز ، وهو من اوكرانيا درس في اكاديميات عالمية في باريس وهولندا، ورسم مجموعة من الشخصيات الثقافية الروسية بينها باسترناك، سيرجي ايفانوف. معظم البورتريهات تنسب الى المدرسة الواقعية، ولم يخرج عنها سوى فنان المسرح ومصمم الديكور ميخائيل فرويل الذي عرض لوحتين على اختلاف من الأساليب السابقة، الأولى لزوجته الممثلة المشهورة ناديا فروبل، والثانية له، وفيها يظهر محاولته استخدام الهندسة التكعيبية التي بكرت في روسيا منذ عصر كاترينا العظيمة، ولكنها برزت كمدرسة في باريس مطلع القرن العشرين. وتشي لوحة صوفي منتر التي رسمها إيليا روبين، بانطباعية تقرّبها من أسلوب مونيه الفرنسي، فعازفة البيانو واستاذة معهد الموسيقى في بطرسبيرغ، كانت تجسد جمال المرأة التي تقف صورتها الفنية بين فترة النهضة وبدايات التنقيطية. تبقى لوحات المعرض قليلة العدد مقابل الكم الكبير من البورتريهات التي رسمها الفنانون لمشاهير روسيا في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، التي يحتفظ بها الارميتاج، ولكن رسومات هذا المعرض لم تكن سوى ما استطاع جمعه مقتني اللوحات بافل ترتيكوف الذي كرس ثروته لتصوير الفنانين والأدباء وصيانة كنزه الثمين. قبيل وفاته أهداه إلى بلدية موسكو، فتحول الى واحد من الكاليريهات المهمة في العاصمة الروسية.
مشاركة :