لنفترض أن باحثاً سياسياً أراد عام 1988 إعداد رسالة علمية عن الحرب الباردة، والجدار الحديدي الفاصل بين الشرق والغرب، حسب تعبير ونستون تشرشل. وبينما هو يحشد مادته العلمية، فإذا بسور برلين وقد انهار، وبألمانيا وقد توحدّت، فيما كان يعد مستحيلاً قبل عام واحد. اختار الباحث أن يعدّل موضوع بحثه إلى دراسة الاتحاد السوفييتي في حقبة «ما بعد انهيار السور»، فإذا هو - وبعد أن قطع شوطاً في البحث والدرس - يُفاجئ بانهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط الإمبراطورية. أراد الباحث أن يعدّل من مساره مرة أخرى نحو يوغوسلافيا التي سرعان ما تفكّكت، ثم نحو تشيكوسلافيا التي تفككت هى الأخرى. وهكذا فإن الباحث كلما أمسك بشيء أفلتَ من يديه، وكلما توّصل إلى طرحٍ تبدّل كل شيء. تصورتُ هذه المحنة البحثية، وقد أحاطت بأحدهم، وأنا أقرأ عن كتابٍ جديد صدرتْ نسخته العربية في القاهرة بعنوان «كلما وجدتُ معنى الحياة يغيرونه»، وقد أخذ مؤلف الكتاب «دانيال كلاين»، الذي درس الفلسفة في جامعة هارفارد عنوان كتابه من مقولة للفيلسوف «راينهولد نيبور». يشبه الأمر أسطورة سيزيف.. كلما اقترب الإنسان من الخطوة الأخيرة نحو الهدف، عاد الهدف إلى الوراء وتباعدت المسافة، وانهار الأمل. يبدو أحدُنا وكأنه تمنى لو أن هناك فرصة أخرى للحياة، أو عدة فرص وبدائل.. ليعيد الإنسان حياته على نحو أفضل، فيتلاشى هذه الأخطاء، ويتفادى هؤلاء البشر، ويمسك بهذه الخطى، وينسِف هذه الخيارات. يتمنى المرء، وكأن الحياة الدنيا بروفة لحياة دنيا أخرى، قبل الحياة الآخرة، يشطب فيها هذه السطور، ويعزِّز هذه السطور، ويكتب سطوراً جديدة. تقول كلمات إحدى الأغاني الشعبية بالعامية المصرية: «كتاب حياتي يا عين.. الفرح في سطرين والباقي كله عذاب»، وكأنّه حزين، لأن سيرته مضتْ على هذا النحو، وأنه ربما لو أعادَ حياته من جديد، لكان هناك احتمال أفضل لكتاب حياته. في مرحلة النضج الكبير فيما بعد العقد السادس، ومع اتساع مساحة الحكمة والسكينة، يدرك المرء أن كل هذه المشاحنات والمكايدات، وهذا الكم الهائل من المعارك والاشتباكات، كانت في معظمها.. بلا معنى ولا داع. تأتي الحكمة متأخرة كالعادة، ويصل العقل إلى حدود المعنى واللامعنى.. بعد آلام مفتعلة، وأحزانٍ جرى تضخيمها. في مقدمة المسلسل الشهير «ليالي الحلمية» يقول الشاعر الكبير سيد حجاب: «ماتسرسبيش يا سنينا من بين أيدينا.. وما تنتهيش.. دا احنا يادوب ابتدينا». إنه ذلك الإحساس العميق بالخذلان في الحياة، في عدم سبْر أغوارها وفهم فلسفتها، وأنه حينما بدأ الإنسان يدرك ذلك كان قطار العُمر قد قطع عشرات السنين ومئات المحطات. فكان ذلك النداء المؤلم: لا تتسرب أيها العمر من بين أيدينا، لا تنتهِ فلقد بدأنا للتوّ. بدتْ لي مقولة الفيلسوف نيبور«كلما وجدتُ معنى الحياة يغيرونه» تعبيراً أخاذاً عن مفارقة الإدراك المتأخر لما كان يجب إدراكه مبكراً. كم تبدو هذه المقولة أكثر أهمية في زمن العولمة والسقوط النفسي على عتبات وسائل التواصل.. حيث أصبح الملل بلا نهاية، والتغيير بلا حدود، وكلما وصل الإنسان إلى موطئ قدم انهار من تحته المكان.. كأن كل شيء ماضٍ وقد انتهى، وكل مستقبل غيبٌ لم يجيء.. كأنما هو موت المضارع.. فلا شيء الآن! حيث لا جزء ثان من الحياة الدنيا، وإنما هي الحياة الآخرة.. فلنبدأ من الآن مسيرة التصحيح، لا وقت إضافياً، و«أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً».
مشاركة :