«عوداً حميداً» لأمل التميمي من حياة البرزخ وتجربة الموت - د.أمل بنت محمد التميمي

  • 8/23/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

مع بداية العام الدراسي الجديد الكل كان يهنئ عودتنا بالسلامة ويردد عبارة (عودا حميدا) إلا أن هذه العبارة تكررت على مسامعي بأحضان أخوية حميمية من الزميلات، بعد الوعكة الصحية التي مررت بها في أوّل الإجازة، لقد شعرت بالامتنان عند سماع عبارة «العود أحمد يا أمل» المصاحبة لدعوات جميلة بصدق المشاعر. لم تكن هذه مجرد عبارة عابرة، وإنما كانت تختزل في داخلي مشاعر متقدة وتصف عودة بعد تجربة قاسية. طلب مني الدكتور صالح معيض الغامدي أن أكتب عن هذه التجربة الفريدة في الأدب الذاتي بعد أن قمت بالسلامة ولكن حينها لم أستطع لهول الصدمة وما زلت تحت وطأتها، ولكن مشاعر زميلاتي بعد العودة حركت رغبتي في الكتابة. «العود أحمد»، أو «عدنا والعود أحمد»، مثل عربي قديم، وهو يعني العودة الحميدة للشيء بعد الابتعاد عنه، ولهذا المثل قصة، فيحكى أن رجلا يقال له خِداشاً التميمي، أحب فتاة جميلة من بني ذَهل ثُمَ مِنْ بَني سَدُوس يُقَال لها: الرَّباب. ولكن أبواها رفضاه، وقد كانا يتمنعان في خطبتها لجمالها، وكانا يطمحان لتزويجها ممن يملك المال والجاه. فأعرض عنها خداش احتراماً لقرار والديها […] فلما أصبحوا غدا عليهم خداش فسلم وقال‏:‏ العَوْدُ أحمَدُ، والمَرءُ يَرشُدُ، والوِردُ يُحمَدُ، فصارت مثلاً». (انظر تاج العروس للزبيدي، القاموس المحيط للفيروز آبادي، مجمع الأمثال للميداني)، والْعَوْدُ أَحْمَدُ: أَيْ أَنَّ عَوْدَتَكَ لِشَيْءٍ مَّا لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ خِبْرَةٍ. العود أحمد بعد تجربة الموت التي لم يجربها أحد ليحكي لنا عنها، جربتها وشعرت بالألم واللذة في الوقت نفسه، أما بعد التجربة فما حصل لي أعجز عن وصفه وما زلت أراقب نفسي. جربت النزاع فجأة بدون سابق مرض أو إنذار لموت، وأصعب الأشياء التي لا نعرفها ولم نجربها من قبل، وألطف الأقدار قرب ربنا منا، شعور غريب يصعب وصفه أو نقله ولكنني سأحاول، حينما أفقتُ من حالة الموت التي مررت بها قال لي الطبيب: صفي ماذا حدث؟، وفي كل مرة أكتشف أمرا حينما يطلب مني وصف الحالة الداخلية لي وهي تختلف عن الخارج تماما كما يبدو، حينما حكيت لهم عن ماذا كنت أشعر به تبين لي أن حكايتي تختلف عن الواقع الحقيقي. وحينما كنت أحكي للدكتورة سعاد المانع ماذا حدث! كانت تتفاعل مع الحكاية وتقول لي: إنها تشعر بقشعريرة من الحكاية، وطلبت مني الدكتورة سعاد بعد سماع تفاصيل الحكاية أن أكتب مشاعري وكانت تسمع مني وتربط ما تسمع بحكايات لزميلات لها مررن بقصص مشابهة وأنقذهن الله من الموت أو الجلطة الدماغية، هكذا بدا بعد التشخيص. أنا كنت أحسبه (نزاع الموت) ولكن الأطباء شخصوه بعد ذلك بجلطة دماغية خفيفة عارضة مرت بسلام. كنت في عصر يوم الجمعة (يوم التورية) 8 ذو الحجة 1445هــ في المدينة المنورة وقرأت سورة الكهف واستوقفتني مثل كل مرة أقرأها آية: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) الكهف 103 – 105 فقلت اللهم لا تجعلنا من الأخسرين أعمالا، فنظرت في الساعة فكانت ما يقارب الخامسة عصرا فقلت في نفسي يمكنني قبل المغرب الذهاب لشراء كيكة تخرج لابن أختي غصون نصوري، وكيكة الناجحين وطلبت من البنات أن يكتبن الأسماء لغرسها على الكيكة ولا ينسين أحدا حتى الصغار الذين لا يدرسون نجد وعبد العزيز القصد من حصر كل الأسماء رغبة في تحقيق الفرحة للجميع. خرجت وما هي إلا دقائق وسألني زوجي إلى أي طريق أتجه، فكنا نتشاور إلى أي اتجاه نسلك، وفجأة شعرت وكأنني في عالم آخر، أنسحب من هنا لأكون هناك، ولا أستطيع الكلام، صمت لساني تماما لا أستطيع الكلام، وشعرت بهبوط وكأني أنزل إلى هاوية في ساحة ملاعب من مكان عال جدا إلى أسفل قاع، وشعرت بغثيان شديد وشعرت كذلك بأن رأسي يترنح يمينا ويسارا ورأيت ستارا أسود حجب عني الرؤية فلا أرى السيارات، فلا أرى شيئا، كأن ستارا أسود أغمض عيني، وشعرت كأنني أنا أهوي في هاوية أترنح يمينا يسارا ولكن لا أرى. حسبت أنه قد أصابنا حادث جعلنا نلتف يمنة ويسرة، أحاول إعلام زوجي بأني أشعر بأنني لست بخير، ولا أعلم ما يحدث ولكنني مكبلة أغطس في قاع أسود مظلم كأنني في بحر، وفجأة أصبحت روحي تخرج من معدتي، كأنني أتقيأ، وريق غزير يخرج من جوانب لساني بجوار خدي، وأصبحت أشعر أن روحي تخرج وأني أنازع، وشعرت بعرقٍ كبير ينبض في المعدة في الجهة اليسرى وتخرج منه روحي وأصبحت أشعر بالغثيان والتقيؤ وريق غزير يسيل من بين أشداقي، شعور مؤلم جدا أنني لا أستطيع التحكم بنفسي ولا أستطيع الكلام أو طلب النجدة من أحد، شعرت أنني فارقت الحياة وأشعر بظلمة شديدة وروحي تصعد من جوفي باندفاع شديد، وريق يملأ فهمي ولا أستطيع الكلام، في تلك الظلمة والشعور المؤلم شعرت أنني أتلاشى وأصبحت شيئا صغيرا جدا بحجم الكرة الصغيرة، مكاني بجوار كتفي الأيمن، فأنا شيء صغير بجوار الكتف ولكن لا أستطيع التحكم بنفسي ولا الكلام، لا أعرف ماذا حصل كنت أشعر أنني في عالم آخر مظلم تماما، ولكن كنت في تلك اللحظة أرى شيئا وحيدا يدور في ذهني الواعي (أولادي) كنت أتمنى أن أعود للحياة لأكلم مناير وأوصيها بإخوانها، كانت تنتابني أفكار كثيرة… كيف أعطيهم بطاقات الصرّاف حتى لا يحتاجون إلى أحد، كيف سيعيشون بعدما رحلت عنهم، كيف سيأتيهم خبر وفاتي، وبجهد كبير من ذاك الشيء الصغير من روحي أصبحت أسيطر به على وعي وذكرت الله، وذكرت الشهادة، أصبحت أتشهد لا أعلم إن كان صوتي مسموعا أو هو وعي الداخلي بنفسي ولكنني شعرت بأن صوتي قد خرج بالشهادة وأدركت أنني قلت لزوجي بجواري قائلة: (أوصيك بأولادي) قبضت على يده وغطست في ظلمة غريبة وشعور غريب متناقض جدا. أصبحت في هذه الحالة أنا أشعر بأنني في عالم آخر وأنني مت وانتهت حياتي، وأصبحت في ظلمة مع جسد هامد لا أستطيع التحكم به أبدا وكأن روحي شيء صغير جدا هي الوحيدة التي تستطيع التأمل والتفكير وهي شيء منفصل عني داخل جسدي وتسير في ظلمة لا ترى العالم الخارجي بتاتا ولا أستطيع التحكم بجسدي البتة أو رؤية العالم الخارجي أبدا، شيء صغير يستطيع الإدراك أنني أمل في داخلي فقط لكن لا يستطيع الخروج أو التحكم أو الكلام. انتهى كل شيء دون عودة. حسبته الموت، وأنتابني حزن شديد على أبنائي وكنت أفكر حينها بخالي (حسن) الذي انتهت حياته بهذه الطريقة في السيارة مات فجأة ولم يعد، كنت أتمنى لو أرى أولادي لمرة واحدة وأوصيهم ببعض الوصايا. العجيب أنني كنت أتمنى أن أدخل يدي في حقيبتي وأعطيهم البطاقات حتى لا يحتاجون أحدا، أكثر شعور سيطر على وعي الداخلي خوفي على أبنائي من العوز والحاجة، وكنت في الوقت نفسه أشعر بقرب ربي وبشعور اطمئنان عجيب في نفسي، لم أخف من تلك الظلمة والقاع العميق والوحدة، على العكس شعرت براحة عميقة بقرب رب يسمعني، ولكنني كنت أشعر بشعور حزن عميق أنني فارقت الحياة، وفارقت أبنائي صغارا، كنت في تلك الفترة التي قضيتها مع اطمئنان شديد بذكر الله وظلمة شديدة وحزن شديد على مفارقة الحياة. شعور غريب عاجزة عن وصفه، انتهى كل شيء، وصمت كل شيء. لا أعرف المدة التي قضيتها هكذا، ولكن الشعور الأصعب، حينما تضاربت علي المشاعر بسماع أصوات متداخلة لا أعرفها، وأصبحت أشعر بشعور صعب أراني فيه بين عالمين: عالم آخر عالم الموت، وعالم الحياة، فكنت أشعر بأنني أسيرة الجسد مكبلة في ظلمة، وناس يكلمونني ويشعرونني بأنني على قيد الحياة، كنت لا أعلم من هم أصحاب الصوت، ولكن تبين بعد ذلك أنهم أطباء وأشخاص كثيرون حولي وأراهم رؤية فيها غبش، كأنني من خلف شاشة يقولون لي تعرفين هذا؟ كنت لا أعلم حينها أنا في عالم الموت أو الحياة، وكانت صعبة علي الإجابة، أريد الكلام ولكن لا استطيع التحكم بلساني كأنني شيء صغير يدرك في جسدي ولكن لا أتحكم به. وسمعت صوتا قائلا: تعرفين هذا؟ ما رقم هويتك؟ كنت حينها أتمنى لو أستطيع الكتابة، تمنيت أن يعطوني قلما وورقة لأكتب، لا أعلم أين أنا! وكنت في داخلي أدرك أنني لو كتبت لاستطعت الكتابة وأدرك من أنا، أنا أمل وأعرف رقم هويتي ولكن لا أستطيع الكتابة ولا الكلام، فكنت أفكر كيف أكتب له أنني أسمعك ولا أستطيع الكلام، أظن أنني كنت أستطيع الإشارة بإصبعي السبابة الأيمن بجهد أريد منهم أن يعطوني قلما، ثم رأيت وجها شديد البياض يقترب من وجهي يكلمني، ثم استطعت بجهد أن أنطق له قائلة: «أنا مت». كنت أحسب حينها أنني مت، وأصبحت أسمع من حولي في عالم الأموات، ولكن يصعب علي الرد والكلام، كنت أحسب أنني في (البرزخ) الذي يقولون عنه إن الميت فيه يسمع ولكن لا يستطيع الكلام والرد على الأحياء، كنت أسمع من حولي ولكنهم أناس لا أعرفهم، بيد أن هذا الوجه القريب مني يقول لي: «يا أمل أنت طيبة وبخير ما متي ولا شيء». صدمني قوله إنني على قيد الحياة، كيف لم أمت وأنا أشعر أن روحي قد خرجت من معدتي مع التقيؤ؟ كيف لم أمت وأنا سقطت في قاع مظلم لا أرى شيئا كيف ما مت وأنا لا أستطيع التحرك. شعور متناقض ومربك جدا بين شعور أنني ميتة وأسمع الأصوات وأنني لا أستطيع الكلام والتحكم في جسدي. ثم أصبحت أريد التأكد أنني على قيد الحياة، فأصبحت أستطيع التحكم بلساني بثقل شديد وأدركت أنني أتكلم مع هذا الشخص ويرد علي، أرى ولكن ليس مثل ذي قبل كأنني في قاع بحر، رؤيتي في النظر غبشة وبعيدة، كأن وجهه عليه عدسة مكبرة تقترب من عيني فأراه وحده ولا أرى من حوله، ولكن أدرك أن حوله ناسا كثيرين، فقلت له من أنت؟ قال أنا الدكتور معن؟ طيب أنا فين؟ فقال لي: أنت في المستشفى؟ فأصبحت أتأكد منه أنني لم أمت؟ وأقول له: «طيب والحادث»؟ فيقول لي أي حادث؟ قلت له أصبحنا نلف ونروح يمينا ويسارا وهبطنا، فقال أنت كنت تسوقين؟ فكنت ملخبطة لا أعرف ما سبب ذاك الدوار والهبوط وصعود الروح، فسأل الطبيب زوجي هي كانت هي التي تسوق فقال له: لا. تأكدت من الطبيب أنني أمل وأنني على قيد الحياة وأنني لم أصطدم بشيء أنهى حياتي. فرحت جدا أنني ما زلت على قيد الحياة وذلك الذي يدرك الشعور بي في داخلي أصبح يكبر، وأول شيء طلبته منهم أن أكلم ابنتي مناير، كان هذا الشعور الذي يغمرني وأنا في تلك الظلمة أريد مكالمة مناير وكانت هذه الرغبة مستحيلة التحقق وهو شعور يشعرني بالحزن الشديد، أريد مكالمة مناير لو لمرة واحدة، وكانت هذه الرغبة مستحيلة. هل العودة ممكنة؟ اتصلوا على مناير وأصبحت الرغبة المستحيلة تتحقق سمعت صوت مناير قائلا، (ماما) كلمة ماما جعلتني أدرك أنني على قيد الحياة، لا أتذكر ماذا قلت لها: ولكن أذكر أنها قالت لي «أنت فين» وأجابت الممرضة التي بجواري قائلة بالنيابة عني: مستشفى الجيش. عدت، بعد سماعي صوت مناير شهقت وبكيت وأصبحت أشعر بأنني على قيد الحياة، بعد سماعي صوت مناير، بدأ ذاك الشعور الصغير يسري في جسدي يشعرني من أنا؟ أدركت أنني أمل وأنني في مستشفى وأنني لم يصبني حادث، وبدأت بعد مكالمة مناير رويدا رويدا أشعر بجسدي رغم الثقل الشديد والظلمة التي كنت بها، وأصبحت أشعر بالحياة تدب في جسدي والفرح يغمرني وعلى لساني الشكر والحمد. علمت فيما بعد من الأطباء واحد بعد الآخر ما حدث لي، فلم يصبني حادث أو أي إصابة خارجية، ولكن أدركت أن ذاك شعور داخلي فقط، نتيجة جلطة دماغية عارضة تسببت في قصور لشرايين الرأس وهي التي سببت لي فقدان البصر والحركة وعدت بسلام ولله الحمد، نترك التشخيص الطبي بتفاصيله، ونركز على تجربة الموت وحدها في هذا الموقف العجيب. عدت والعود أحمد، لا نعلم كيف يكون الموت وحينما جربته علمت أنه مؤلم وفيه لذة، شعور عجيب صعب وصفه، ألم الفراق ولذة القرب، القرب من الرحمن ولطف خفي، قد لا يشعر الميت بالحزن على حاله، ويشعر بالحزن على مفارقة الأحباب، وقد يتألم على شعورهم بالفقد، لأنني هكذا شعرت، حزنت على عائلتي التي سينقلب عيدهم إلى حزن، حزنت على أمي كيف ستعيش بعد فراق ابنتها البكر، وكيف يمكن أن يكون حالها في صف العزاء، حزنت على أبنائي كيف سيتربون أيتاما فأمامهم طريق طويل يعانون فيه بؤس اليتم ومرارة فقد الأم، وحزنت على مناير كيف ستصبح حياتها بعدما تكون هي كل شيء بعدي، تتحمل مسؤولية الحياة والنجاح ولم شمل الأسرة وتكون دائما صامدة قوية مبتسمة حتى تعيش بروح أمل وتسعد أمل بأن تكون هي امتداد الحياة لها بالعمل الصالح وتربية أخوانها وصلة الأرحام والاجتماع السنوي لعائلة التميمي و....و.....و....و..... من الناحية الأخرى، كيف نتمنى النهاية؟ فلا أجمل من النهاية التي اختارها الله لي، فثاني يوم من الحادثة التي أصابتني، في يوم عرفة وبعد صلاة الظهر اتصل زوجي بي ليقول لي: «الحمد لله يا أمل صلينا على أموات في المسجد النبوي الشريف ولم تكوني معهم هذا فضل الله علينا». وأردف قائلا: «بعد موتك أنت سيقولون الناس بعد دفنك، ماذا تريد أحسن من هذه الخاتمة أيام فضيلة، ماتت في يوم جمعة وكانت صائمة وقرأت سورة الكهف وأنهت حياتها بالصدقة وماتت وهي في طريقها لتشتري كيكة لأطفال العائلة، فآخر أعمالها تبتغي صلة الأرحام وحب لم الشمل. أما نحن فسيكون عيدنا ألم وعزاء فالحمد لله حفظك الله وأصبح عيدنا عيدين». عدت والعود أحمد، نعم، تأملت كلام زوجي؛ لأنه يرى الموقف من الخارج، وأنا كنت فيه من الداخل، الصمت ألم، والوعي الذي كنت أدركه صعب وصفه، وعي خاص بي لم أشعر به طوال حياتي، تعلمت من هذه التجربة شعور ألم الموت ولذته بالقرب من رب العالمين، فمهما عشنا ستنتهي حياتنا بلحظة ونكون بقرب رب رحيم لطيف بنا، أقرب إلينا من حبل الوريد، وسوف ننفصل عن العالم الخارجي تماما، سننفصل، وهو الذي يختار النهايات وطريقة الموت، فلو خيرنا سيكون الخيار صعبا جدا فحينما اختار الله لي طريقة النهاية فهي خير نهاية بالنسبة لي، وقد تكون صعبة على أهلي؛ لأنها فاجعة الفقد المفاجئ، ولكنها هي النهايات التي يتمناها كل مسلم القرب من ربه بذكر الشهادة. ولكنني عدت والعود أحمد، فاللهم اكتب لنا حياة طيبة ونهاية كريمة. ويوم العودة واجتماع زميلاتي احتفالا بالعام الدراسي الجديد رأيت في أعينهن فرحة وحبا جميلا ولهفة أمينة الجبرين كأنها حمامة تطير لتغمرني وهند المطيري رأيت في عينها أكثر من قصيدة وديوان، وبعضهن عانقوني عناقا لم أشعر به طوال حياتي، وقالت لي زميلتي الغالي الدكتورة ذكرى القبيلي: حبيبتي أمل ما حصل رسالة من الله..... وكانت تتحدث ولا أسمع صوتها فقط أرى ابتسامتها. أصبحت بعد هذه التجربة أقف على جسر مطل على الناس، كأنني وحدي وأرى الناس من شاشة أراقب بتأمل شديد، عدت والعود أحمد، لو لم أعد من سيفقد غيبتي؟ يمكن لن يفقدني طالب العلم الذي أتفانى في حياتي من أجله، ولن يفقدني عملي، سيسير بمن هو أفضل مني، ولن يفقدني الصبح بجماله وإشراقاته، ولن يفقدني الليل بأحلامه، سيفقدني أطفالي بعد كل صبح وليل لن يجدوا أمهم تمسح على أجسادهم الناعمة، وتحضنهم في الصبح وفي الليل، سيفقدونني هم لأن الأسر تستمر بحنان أم وأحضانها، فيمكن أن الله قد أعادني من أجل أطفالي، فالحمد لله عدت والعود أحمد لحكمة يعلمها الله. فما زلت في حالة المتأمل بعد العودة على جسر يصعب وصفه أرى في عتمة الظلمة نور القرب ولذة الحب... هذه حالتي بعد العودة: التأمل!! ** ** - أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود

مشاركة :