هل سايكس - بيكو هو حقاً أصل الإشكال؟

  • 5/1/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

عام 1916، تم الاتفاق، من خلال مفاوضات سرية بين الديبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني السير مارك سايكس، وبمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام الإمبراطورية العثمانية في منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا. عرف الاتفاق بـ «سايكس - بيكو»، الذي قوبل لاحقاً بالإدانة من القوميين العرب، حتى أن جورج أنطونيوس وصفه بـ «الوثيقة المروعة» لأنه يضع العراقيل في طريق الوحدة، في وقت أصبحت الحركة القومية قوة نامية وفي رأس أهدافها الوحدة العربية والاستقلال. من هذا المنحى بالذات، درج القوميون منذ ذلك الاتفاق «المشؤوم» الى الآن على التنديد بـ «التجزئة» وبـ «الدولة القطرية» باعتبارها كائناً شائهاً معوقاً، وصنيعة سايكس - بيكو. وبقي هذا التصوّر سائداً حتى مطلع القرن الراهن، حيث كتب أحد غلاة القومويين: «الدولة القطرية هي لعنة في حياة الأمة العربية، إنها مصدر العذاب والمعاناة والشؤم والمسخ... إنها عاهة تعوق نمو الأمة الطبيعي». لكن، هل هنا حقاً أصل الإخفاق الذي أصاب المشروع القومي العربي؟ هل من الواقعي والمبرر رد ذلك الى سايكس - بيكو أو الى الدولة القطرية؟ أليس في مقولات القوميين الرومانسية وتصوراتهم الملتبسة للقومية والوحدة وشكل تعاملهم مع القضايا الإشكالية الكبرى في الواقع العربي، السبب الرئيس للمآلات البائسة التي انتهى إليها المشروع القومي في مواجهة استشراء العصبويات ما قبل القومية وما قبل المدنية؟ ألا يجدر بالقوميين العرب مراجعة تاريخهم وأنماط تفكيرهم الأيديولوجي ومقارباتهم لمقولات القومية والقطرية والوحدة؟ لعل الابتعاد من هذه الأسئلة المربكة أو عدم مقاربتها مقاربة جدية، هو ما جعل العمل القومي يُمنى بالخيبة، والفكر القومي يصطدم بالآفاق المسدودة. لعل ما انتهى إليه قسطنطين زريق ومحمد عابد الجابري في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، يعبر تعبيراً حياً عن هذا المأزق، حتى أن قسطنطين زريق أعرب عن شكّه في مصطلح «الأمة العربية»، بل في صحة التكلم عن «المجتمعات القطرية العربية» نظراً الى قصورها عن تكوين ما يصح أن يدعى مجتمعاً أو شعباً. وذهب الشك في العروبة الجامعة عند الجابري الى حد التساؤل: «ما الذي يبرر اليوم استعمال اسم «العرب» ليزاحم أسماء اخرى مثل المصريين والسوريين والفلسطينيين والمغاربة؟». هذا الإشكال مردّه حقيقة الى تصوّر تاريخي واهم، فلم يكن مبرراً اعتبار العالم العربي واحداً موحداً، والتجزئة عارضاً تاريخياً بغيضاً فرضه الاستعمار وسايكس - بيكو السيئ الذكر. فالواقع، أن العالم العربي تنازعته على الدوام عوامل جغرافية باعدت بين مناطقه وأصقاعه، وأخرى سوسيولوجية تكمن في تعددية كياناته القبلية والعشائر والاثنية والطائفية التي شكلت عائقاً أمام الوحدة العربية، وقد باتت تهدد الآن وحدة الدولة القطرية بالذات. لعلّ هذا ما تنبّه إليه محمد جابر الأنصاري، إذ شدد على مركزية الدولة الوطنية باعتبارها أول تجربة للعرب في الوحدة، من دون وحدتها تبقى الوحدة العربية حلماً بعيد المنال، ما يفرض إعادة الاعتبار الى هذه الدولة التي أسقطها الخطاب الأيديولوجي، سواء القومي أو الاشتراكي أو الأصولي أو الديموقراطي، لمصلحة طوباويات تنتمي الى الأحلام والأمنيات. أما قوام الخلل في كل هذه التناقضات، فعائد الى اعتبار الأمة العربية والقومية العربية أمراً قائماً محققاً وليس مشروعاً تاريخياً مطروحاً للإنجاز بالجهاد والدم والمعاناة. من هنا، كان تناقض القوميين في تحديد مرتكزات القومية العربية بين اللغة والثقافة أو التاريخ والمصير المشترك أو الدين، في حين أن هذه جميعاً تباعد بين العرب بقدر ما تجمعهم، فثمة تناقضات ضاربة في صميم المجتمعات العربية لا يمكن تدويرها تحت أي مسمّى، مهما بدا جامعاً. هذه الحقيقة هي ما خلص إليه قسطنطين زريق في حوار نشر بعد رحيله في «الحياة» في 28/4/2008، إذ رأى أن القوميات نشأت في الغرب بعد معارك تحرّرية هائلة وثورات مهّدت لنشوئها، أما عندنا حيث المجتمعات خالية من هذه الممهدات، فقومياتها تبقى حلماً، لأن القومية ليست شيئاً حاصلاً وواقعاً. وهي لا تقوم على التشابه في النسب أو اللغة أو التاريخ، وقد نشأت بارتقاء الإنسان من مستوى التضامن العائلي والعشائري الى المستوى الوطني، ويمكن أن ترتقي الإنسانية مستقبلاً فوق التوجهات القومية. لم يدرك القوميون الرومانسيون العرب هذه الحقيقة. ظنوا أن القومية العربية مقولة مؤكدة بالفعل، وأن الوحدة العربية واقعة حتماً، وأنها ليست خياراً حراً، إنجازها رهن بإرادة الإنسان العربي الحر الواعي، التي تقرر وحدها وحدة العرب القومية، وليس أية عوامل موضوعية تاريخية أياً تكن، لغوية أو ثقافية أو دينية. لقد آن الاوان كي نكف عن إلقاء تبعة الانقسام والتفتت على مشجب سايكس - بيكو والدولة القطرية والدأب من أجل اتحاد عربي قائم على الإرادة والعقل بعيداً من أوهام الأيديولوجيا وأضاليلها التي لم تثمر سوى مزيد من الصراع والإرباك.

مشاركة :