يراودني سؤال منذ أمد بعيد؛ كيف لإسرائيل أن تدخل أكثر من حرب وتنتصر وهي منقسمة سياسيا، وتحكمها أحزاب يكفِّر أحدها الآخر؟ وكيف استطاعت إيران المنقسمة بين إصلاحيين ومحافظين، وخطاب الطائفتين شديد التباين وتوجهاتهما في الحكم والاقتصاد والمجتمع مختلفات حد التنافر، أن تبقى آمنة مستقرة، ولم تصل بالدولة حد الفشل أو تعرض سيادتها للخطر، والحال ينطبق على تركيا بين العدالة والتنمية المحافظ، والقوميين الليبراليين وتنوع الطيف السياسي، ومع ذلك فهي ضمن دول العشرين، آمنة موحدة مزدهرة اقتصاديا، ومهوى أفئدة العرب في المصيف والسياحة. لن أتمادى بضرب أمثلة عن أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، لكني لن أغفل التباين الكبير في مكونات الهند السياسية والدينية والثقافية، ولن أتجاهل تنوع إندونيسيا السياسي، والهند وإندونيسيا موحدتان، مزدهرتان وضمن دول العشرين الأقوى اقتصادا على الرغم من الأمية والفقر والجهل المتفشي في بعض أرجائهما. هناك الفلبين، وتايلند، وماليزيا، جميعها تخضع لتباينات أيديولوجية وخطاب سياسي ووطني غير موحد، ومع ذلك فتلك الدول ملء السمع والبصر. أخذا في الاعتبار الأمثلة السابقة، وبالنظر إلى نقيضها في التجربة العربية لا نجد أن جمهورية عربية اختلفت مكوناتها سياسيا دون أن تعمها الفوضى، وتحترب طوائفها، أو تكون أقرب إلى انتهاك سيادتها وتجزئة أرضها بين المختلفين سياسيا وطائفيا. وحتى نكون منصفين، لا يجب أن نجري المقارنات على عواهنها دون النظر في العديد من العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تسهم في تشكيل العلاقة المعقدة بين مكونات الجمهورية العربية؛ من الضروري أن نتذكر أنه لا يوجد أمة عربية، وإنما دول ناطقة باللسان العربي، واللغة وحدها لم تكن عامل تقسيم لبعض الدول والتجمعات غير العربية كالهند والاتحاد الأوروبي، وهذا يعني بالضرورة أن اللغة وحدها غير قادرة على تجميع العرب في أمة أو وحدة سياسية. عندما أسوق هذا الرأي فإنني بذلك أشير إلى أن الخبرات والآراء حول نمط الحكم تختلف بشكل كبير بين البلدان والأفراد المختلفين في العالم العربي. ولا نغفل أن الجمهوريات العربية لديها تاريخ طويل من الحكم الذي يقمع الأحزاب السياسية أو يدجن بعضها على حساب الآخر، مما تنعدم معه الفرص المتكافئة، ويتعاظم السخط الذي يجعل المكونات على شفا الانقسام دائما، مما خلق انعدام ثقة عميق الجذور في الأحزاب السياسية، والتي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها أدوات للانقسام وعدم الاستقرار، بدلاً من كونها هياكل للتمثيل الديمقراطي. قد نقول تجاوزاً إن العالم العربي يتميز بفسيفساء معقدة من الهويات العرقية والدينية والقبلية، وفي بعض الحالات، تتشكل الأحزاب السياسية على أسس طائفية أو قبلية، مما يؤدي إلى تفاقم الانقسامات القائمة وإثارة المخاوف من الصراع، ولتجاوز تلك المخاوف أعطت السطات القائمة على الحكم الأولوية للاستقرار والأمن وغلبته على التعددية السياسية وحرية التعبير، سعيا لمنع الفوضى والحفاظ على الوحدة الوطنية. يفاقم المخاوف من التعددية التركيز القوي على الإجماع واللحمة الوطنية، مما أدى إلى الإحجام عن الانخراط في نقاش سياسي مفتوح وانتقادات علنية باعتبارها سمات للحكم الجمهوري القائم على التنوع السياسي والتداول السلمي للسلطة. يزيد المخاطر النزعة إلى تفضيل حل النزاعات من خلال القنوات غير الرسمية بدلاً من إعمال سلطة المؤسسات السياسية والعدلية الرسمية. لا نستطيع تجاهل العامل الخارجي، فالبعض يدفع بأن تأسيس إسرائيل في قلب العالم العربي أسهم في الشتات السياسي والفشل التنموي الذي تشهده بعض الجمهوريات العربية، إضافة إلى التدخل الخارجي في سياسات الدول العربية الداخلية تحت عناوين كثيرة، مما أسهم في الشعور بالضعف والرغبة في السيطرة على الخطاب العام، وفرض قيود على الأحزاب السياسية، والتي يُنظر إليها، في بعض الأحيان، على أنها قنوات محتملة للنفوذ الأجنبي، وهو هاجس لا يشغل إسرائيل على سبيل المثال. من الظلم أن نعمم في تناول ظاهرة الاختلاف العربي عن محيطه غير العربي، ومن المنطق أن نعترف بوجود مشكلة لحث البحث الاجتماعي السياسي على تشخيصها بدقة، ومن ثم وصف المعالجات الممكنة وإن على المدى الطويل، لتجاوز أزمة الحكم في الجمهوريات العربية، وفشل التداول السلمي للسلطة. المعالجة لهذه القضايا المعقدة يتطلب نهجاً متعدد الأوجه يشمل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الالتزام بالحوار والشمول، وقبل ذلك وبعده النظر فيما إذا كان الشكل الجمهوري هو المناسب للدولة العربية أم أن النهج الملكي هو الأنسب. التهجين في النظام السياسي بتشكيل جمهوريات يحكمها ملوك يتوارثون السلطة قد يكون أُس المشكلة. الملكية ليست مجرد حاكم، يأتي بانقلاب عسكري أو صناديق انتخابات يجري الاقتراع فيها تحت ظروف معقدة أشرنا لبعضها سلفا، وإنما تكمن قوة الحكم الملكي في تداوله من قبل سلالات عريقة خبرت الحكم وفنونه، مستندة إلى شرعيات أصيلة، وأهمها شرعية المنجز. لست في هذه المناقشة المقتضبة أزعم أنني قد تناولت شأنا شائكا بهذه العجالة، فهناك ما هو أعمق من الظواهر السطحية يتطلب دراسات متعمقة تجعل الجمهوريات العربية على طريق الإصلاح ولو بعد حين. المشاعر وحدها لا تكفي، وإنما يقتضي الأمر الاعتراف بالمشكل ومواجهته بشجاعة.
مشاركة :