ثلاث سنوات قضاها أهالي مدينة معضمية الشام، ضمن ما عاشته غالبية بلدات ريف دمشق في حصار خانق، كان حجر الرحى الذي طحن العشرات من أبناء المدينة من غير رحمة، إذ لم يقتصر الحصار على نقص الطعام، بل شمل جميع جوانب الحياة الخدمية، والمعيشية، والطبية. وهو هاجس أدى تراكمه على مدى الوقت إلى ضغوطات نفسية وعقلية تبدو غير مرئية عند الحديث عن الحصار، ونقص الغذاء، والدواء، وهو ما يركز عليه هذا التقرير الذي يلقي الضوء على الجانب المنسي من الحصار، الأمراض النفسية. في بداية 2014 أبرمت بلدة معضمية الشام بريف دمشق المعروف بـ«الغوطة الغربية»، هدنة مع النظام، كان من أبرز شروطها فتح معبر المدينة، وإيقاف القتال. عاشت بعدها المدينة في حياة معقولة نسبيًا، فقد سمح بإدخال المواد اللازمة، وبدأت الحياة بالعودة تدريجيا للبلدة، ولكن غدر النظام بأهالي المدينة أبطل كل شيء في العام نفسه، عندما أغلق المعبر الذي هو شريان المدينة الوحيد، وأبقاه مغلقا إلى الآن. وضاقت أحوال الناس بهم في ظل هذا الحصار في المأكل والأدوية وبقية المستلزمات اليومية. وندرت المواد الغذائية، وأصبح هم البقاء على قيد الحياة، وتأمين لقمة اليوم هو الهاجس الذي يشغل سكان المدينة، والذي تحول عند كثيرين في البلدة حتى ممن لم يعرفوا سابقا أية أمراض نفسية، إلى حالة عصبية مرضية. من لهجته الغاضبة وعينيه الحمراوين اللتين فتحمهما لدرجة مخيفة، بدا على أبو جواد أنه غير طبيعي على الإطلاق. أخذ يتكلم بكلام غير مفهوم ويدعي أمورا لم تحدث أبدا، يرويها كأنه يتذكرها من الماضي، مع أنها من صنع مخيلته وعقله الذي أصابه الخلل بعد عناء طويل مع الحصار. أبو جواد، الذي نيّف على الخمسين اعتاد على التدخين منذ الصغر، وكانت لفافات التبغ والدخان المتطاير منها كالزوبعة الصغيرة، هي ملجأه الوحيد في ساعات الغضب وفي دقائق الرضا والحبور. تروي منال وهي إحدى جارات الرجل بالمعضمية حادثة شهدتها أخيرا مصدرها أسرة هذا الرجل: «منذ عدة أيام لمحت زوجته أم جواد راكضة في الشارع بلا مانطو (معطف)، والدماء على وجهها وكفيها. أدخلتها إلى منزلي، وحاولت أن أهدئ من روعها، فقد كانت في حالة فظيعة، بعد أن ضربها زوجها ضربا شديدا. وعلى أثر هذا العنف الجسدي النادر بين الزوجين اللذين تقاسما الحياة ثلاثين عاما، فصُلت الزوجة عن زوجها خوفا على سلامتها، وتبين لاحقا أن أبو جواد مصاب بحالة شديدة من المرض النفسي المعروف بـ«الذهان». زرنا أم جواد، 52 عاما، في مسكنها الجديد الذي تقطنه مع ابنتها الصغيرة، وكان السكون الحزين مخيما على جو المنزل. قالت لنا أم جواد: «صدمة كبيرة ما أنا فيه الآن، فقد أراد زوجي قتلي، أمسكني من رأسي الذي راح يضربه على الحائط، ولولا أن الجيران أنقذوني لكنت الآن في عداد الموتى». بكت أم جواد وسال الدمع على وجهها المزرق والمنتفخ من آثار العنف الذي تلقته من أبو جواد. واستطردت بقولها: «منذ إغلاق معبر المعضمية أصبح زوجي سريع الغضب بسبب نقص التبغ والارتفاع الجنوني لثمنه، كل ذلك إضافة لنقص الطعام وبقية المستلزمات اليومية للأسرة». وتابعت بنبرة من التعاطف حيال رفيق الحياة: «كان زوجي أيضا يحب العمل ويقضي معظم وقته خارج البيت، أما في ظل الحصار، فقد أصبح عاطلا، يقضي جل وقته جالسا بصمت في زاوية البيت، أو على قارعة الطريق». أم جواد التي لم تخف حبها لزوجها وحزنها الشديد على ما آل إليه من عصبية، أكدت أن زوجها يعيش الآن في حالة هستيرية مرضية، مستشهدة بأنه: «لم يضربني في حياته، وكان يحسن معاملتي، أما الآن فأشعر أن حياتنا المشتركة قد دمرت». الاختصاصي النفسي نذير الرفاعي ابن المعضمية، قال لنا إن تداعيات الحصار السلبية بدأت بالظهور جليا في هذه الأيام، بعد أن وصل تأثير الحصار إلى قمته. وقال الرفاعي الذي اطلع على حالات نفسية وعصبية في البلدة، كان من ضمنها قصة أبو جواد، إن «الشعور بالاضطهاد والظلم ومنع الطعام والشراب عن البشر، ومن ذلك حرمان المدخنين من التبغ، كل ذلك شكل أسبابا كافية لظهور ضغوطات نفسية تحولت إلى أمراض عصبية وعقلية». وأضاف، خريج جامعة دمشق في علم النفس الذي يعمل مرشدا نفسيا ومحاضرا في أحد المراكز التعليمية في المدينة، أن أمراض «الأعصاب، والذهان، وفصام الشخصية، والأفعال القسرية، والاكتئاب، كلها أمراض بدأت تتشكل ملامحها في المدينة، والسبب دائما هو الحصار والضغط الكبير على المحاصرين، فهم في سجن كبير انعدمت فيه جميع أسباب الحياة». غير أن النساء، أيضا، يتعرضن للمتاعب النفسية الشديدة بسبب الحصار، ونموذج لهذه الحالات، دعاء (52 عاما) التي بدأت تعاني من دوار وإعياء شديد حتى تكاد أن تفقد وعيها أحيانا. وقد نقلت إلى المركز الطبي الجديد في مدينتها معضمية الشام لتتلقى العلاج وتأخذ الحقن الإسعافية. يقول الدكتور مأمون الخطيب، مدير مركز النور الطبي، «إن السيدة دعاء تعاني من ارتفاع في ضغط الدم وتحتاج إلى دواء بشكل مستمر، كما تبين بعد الفحص أن لديها تشنجا بالقولون». ويوضح د. الخطيب أن المرض الذي أصيبت به السيدة هو «مرض نفسي جسدي نتيجة ضغط انفعالي مستمر، بسبب مشكلات وأعباء الحياة اليومية تتسبب بما يعرف باﻷمراض السيكوماتية». وتصادف وجودنا في المستشفى مع زيارة المريضة دعاء التي تحدثنا إليها بعد أن هدأت قليلا، وقالت: «أعيل ابنتي بعد أن استشهد زوجي منذ عام تقريبا. لكني لا أشعر بالأمان أبدا، وأعيش في قلق مستمر من التفكير بما سيحل بنا إذ انتهى المتبقي معي من المال». تضيف، وقد سالت دمعة على خدها: «من حصار إلى حصار. حياة لم تعد تطاق. لو كنت وحيدة ودون البنتين لفكرت بالانتحار». ولم تكن حالة دعاء هي الأولى من نوعها من مرضى يترددون على المركز الطبي، إذ يقول الخطيب إن عشرات الحالات التي عاينها، تعاني من نفس الأمراض، أو أمراض مشابهة منشأها نفسي عصبي». مضيفا: «أستقبل يوميا حالة أو حالتين من هذا التصنيف المرضي، حيث يشكل الحصار عاملا رئيسيا في حدوث أمراض الضغط والمعدة والقولون». وتحتاج هذه الأمراض إلى علاج نفسي ودوائي، إلا أن الدكتور الخطيب يتحدث عن أدوية مخزنة منذ سنوات وقد انتهت صلاحيتها، لافتا إلى أن المعضلة الكبرى تكمن في العلاج النفسي، إذ تفتقر المدينة إلى العيادات النفسية المتخصصة مع صعوبة التنقل خارج البلدة للعلاج، إضافة إلى غياب الأدوية الخاصة بهذه الأمراض». ويعمل ثلة من الأطباء في مشفى الغوطة التخصصي في مدينة المعضمية على علاج المرضى وفق الإمكانيات البسيطة المتوفرة بين أيديهم. وقد تحدثنا إلى أحد الأطباء الذي أشار إلى تسبب الحصار في نشوء أمراض سيكوسوماتية، نتيجة القلق والتوتر والجوع، كذلك تسببه بأمراض نفسية قاهرة وهستيرية»، مشددا على أنه «مع ضعف الإمكانات الدوائية واللوجيستية، لا نستطيع معالجة الحالات العقلية والعصبية إلا ببعض المهدئات». بدوره نفى، الصيدلاني أحمد نتوف، دخول الأدوية المعالجة لهذه الأمراض إلى المدينة منذ سنة، إلا في حالات استثنائية، عن طريق تهريبها أو إدخال أعداد قليلة منها مع الداخلين والخارجين من الأهالي. وأكد أن النظام مارس (آذار) وضع حظرا على جميع أدوية البالغين، وعندما دخلت مساعدات الأمم المتحدة إلى سوريا أخيرا صادر منها الأدوية، ولم يسمح إلا بإدخال أدوية الأطفال فقط».
مشاركة :