ارتفعت أسواق الأسهم في بورصة نيويورك إلى مستويات قياسية في منتصف شهر يوليو 2024، وانخفض سعر صرف الدولار الأميركي أمام العديد من العملات الأخرى، عندما نجح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (صاحب شعار أميركا أولاً) في إعادة ترشيح نفسه رسمياً للانتخابات الرئاسية الأميركية في مواجهة جو بايدن، الذي كان يسعى آنذاك للفوز بفترة رئاسية ثانية. لكن بعد فترة وجيزة، عادت الأسواق للانخفاض، بينما التقط الدولار أنفاسه، وعاد للتماسك، عندما اختار الحزب الديمقراطي كامالا هاريس (التي ما زالت تحترم مسؤوليات أميركا تجاه حلفائها) بدلاً من بايدن، مرشحاً للرئاسة في مواجهة ترامب، وازدادت الخسائر في الأسواق عندما أظهرت استطلاعات عدة للرأي أن هاريس تتقدم على ترامب. في 5 أغسطس 2024، شهد المستثمرون ما عرف بيوم «الاثنين الأسود» في أسواق الأسهم العالمية «أحد أسوأ أيامهم» بعد أن تكبدوا خسائر بالمليارات. لكن ثمة سؤال يطرح نفسه: كيف يمكن أن تسجل الأسواق أعلى مستوياتها التاريخية منتصف يوليو 2024 ثم تعود لهذا «الانهيار» المفاجئ، مطلع أغسطس، وهل يمكن أن تتغير مؤشرات الاقتصاد العالمي بهذه السرعة، وتتحول اقتصادات كبرى من الانتعاش والنمو إلى الركود أو الكساد، في غضون ثلاثة أسابيع أو شهر؟! بالتأكيد هذا غير منطقي، بل إن حركة أسواق الأسهم العالمية خلال الشهرين الماضيين، أرسلت رسالة مهمة في الأسواق العالمية، جوهرها، أن الانتخابات الأميركية المقبلة ستضع العالم على مفترق طرق، وأن الخيارات قد تكون جميعها صعبة، أياً كان الفائز. ويقول جون بلاسار، مستشار أول للاستثمار، في مجموعة ميرابو المصرفية الدولية التي تتخذ من جنيف بسويسرا مقراً لها، إنه من المتوقع أن تؤثر انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة على الأسواق المالية العالمية بشكل كبير، فقد يفضي عدم اليقين السياسي إلى زيادة تقلبات السوق. وأضاف في تصريح لـ«الاتحاد»: «لطالما كانت أسواق الأسهم تتأثر بقوة خلال الأشهر التي تسبق الانتخابات وتليها مباشرةً، إذ عادة ما يميل المستثمرون إلى إعادة تخصيص محافظهم بالاستناد إلى السياسات الاقتصادية المتوقعة للمرشحين، سواءً من حيث سياسات الضرائب أو التجارة أو الإنفاق». وقال: «قد تشهد قطاعات محددة مثل الرعاية الصحية والتكنولوجيا والطاقة تغييرات حادة في الأسعار وفقاً لنتائج الانتخابات، فقد يساهم فوز المرشح الأكثر دعماً للأعمال في تعزيز قطاعات عدة مثل الوقود الأحفوري والتكنولوجيا، بينما قد يؤدي فوز المرشح الذي يركز على التغير المناخي إلى ارتفاع أسهم الطاقة المتجددة». وتوقع بلاسار أن تواجه الأسواق العالمية، لا سيما في الاقتصادات الناشئة، مزيداً من الضغوط الناجمة عن التغييرات في سياسات التجارة الأميركية والتحولات المحتملة في العلاقات الدولية. وباعتباره الاقتصاد الأكبر عالمياً، لذا فإن التحولات في السياسات المالية والتجارية الأميركية تنعكس على الاقتصادات في جميع أنحاء العالم؛ مما يؤثر بدوره على أسواق العملات وعائدات السندات والأسواق المالية في الخارج. من جهته، يقول دانيال موراي، نائب الرئيس التنفيذي للاستثمار، الرئيس العالمي للبحوث في «إيه أف جي»، المجموعة المصرفية العالمية المتخصصة في الخدمات المصرفية وإدارة الأصول ومقرها زيوريخ، إنه لا تزال هناك شكوك كبيرة حول نتائج الانتخابات الأميركية. أخبار ذات صلة منافسة بين ترامب وهاريس لاستقطاب المشاهير خوفاً من تصادم جيوسياسي.. نظام عالمي لتتبع المعادن الحيوية وأضاف لـ«الاتحاد»: «لطالما شهدت السنوات التي تمت فيها انتخابات الرئاسة الأميركية زيادة في التقلبات خلال الربع الأخير منها، ولا يوجد ما يشير إلى أن هذا العام سيكون استثناءً، وعلى المدى القصير، من المحتمل أن تشكل هذه الانتخابات تحديات للأسواق، ولكن بعد انتهائها، سيعود التركيز إلى العوامل الأساسية». وتوقع موراي أنه سيكون لفوز ترامب تأثير إيجابي قصير المدى على الأسهم، بينما قد يشهد السوق بعض التراجع في حال فوز هاريس، ويُعزى ذلك إلى سياسات زيادة الضرائب. وقال: «بغض النظر عن الفائز، من المتوقع استمرار العجز الكبير في الميزانية، مما يفرض ضغوطاً تصاعدية على عائدات السندات الحكومية، وقد يزداد هذا العجز في حال فوز ترامب، مما يشكل بدوره عامل خطر إضافياً في أسواق السندات». وأما نورمان فيلامين، كبير الاستراتيجيين في «يونيون بانكير بريفيه»، وهو أحد أكبر البنوك الخاصة بسويسرا، فقد لفت إلى أن حملات انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2024 تتجاهل التحديات المالية التي تواجه الاقتصاد الأميركي، وهو ما سيفرض ضغوطاً عديدة على الرئيس الأميركي المقبل، وباتت تداعيات هذا التجاهل تظهر جلياً في الأسواق الآن. وقال لـ«الاتحاد»: «عقب تحقيق عوائد قوية متوقعة في الأسهم والائتمان في الفترة التي سبقت الانتخابات وحتى أغسطس المنصرم، يتعين على المستثمرين في الأشهر المقبلة توجيه كامل تركيزهم على إدارة المخاطر ودراسة خياراتهم بعناية فيما يتعلق بالقطاعات والأسهم وعملات التداول التي يخططون للاستثمار فيها في عام 2025 مع وضوح نتائج الانتخابات. وفي ظل التقلبات الاقتصادية المرتقبة مع بداية العام الجديد، قد يكون الذهب وصناديق التحوط خيارين آمنين للاستثمار». إلى ذلك، أكدت الدكتورة شيرين فاروق، نائب مدير الجامعة المشارك للمشاريع الأكاديمية والعلاقات الدولية، أستاذ المالية والمحاسبة في جامعة أبوظبي، العلاقة المترابطة بين السياسة والاقتصاد، مبينة أن مستوى جاذبية الدول للاستثمار وقدرتها على جذب المستثمرين الأجانب ورؤوس الأموال، يعتمد بالدرجة الأولى على طبيعة القوانين والتشريعات التي تقرها الدول، والتي تعكس من خلالها توجهات النظام السياسي للدولة. كما أوضحت الدكتورة فاروق في حديث لـ«الاتحاد»، أن العديد من الإجراءات الحكومية تؤثر على قرارات المستثمرين، وجاذبية السوق للاستثمار، خاصة في مجال تقليص البيرقراطية، وتسهيل الإجراءات الحكومية. خلاصة القول، إن توجه الحكومات السياسي ينعكس على الأسواق بشكل مباشر أوغير مباشر، من خلال طبيعة العلاقات الدولية والعلاقة مع الشركاء التجاريين في الخارج، ومن خلال حدود تدخلها في الاقتصاد، والسياسات المالية والنقدية، ومساحة نفوذ القطاع العام والشركات الحكومية. ومع ذلك، فإن معرفة حدود الربط بين التطورات السياسة وحركة أسواق الأسهم، يتطلب فهماً عميقاً لآليات عمل أسواق الأسهم، والقوى المؤثرة في حركة الأسواق، وآليات اتخاذ القرار الاستثماري، وكذلك الجوانب الفنية والتقنية لعملها، وهذه جميعها عوامل تحكم بدرجة كبيرة اتجاهات الأسواق، وطبيعة حركتها. وعند الحديث عن أسواق الأسهم، فكما هو معلوم، من الناحية الفنية، يقرر المستثمرون الشراء أو البيع، لسهم معين، بناء على البيانات التاريخية للشركة، وتوقعاتهم لمستويات الأمان والاستقرار لأدائها، وتوقعاتهم لمستويات الأرباح التي يمكن تحقيقها، أو الخسائر المتكبدة، وحجم التوزيعات النقدية، ومعدلات دوران الأسهم، ومكررات الربحية، ونسبة حقوق المساهمين إلى القيمة السوقية، وكذلك الأداء الكلي، وغيرها من المعايير والمؤشرات التي يعتمد عليها المستثمرون في قياس مستويات الثقة بشركة معينة لاتخاذ قرار الاستثمار من عدمه. وحسب الحركة التاريخية للعديد من البورصات العالمية، فإن هناك «الكثير من السياسة» في أداء الاقتصاد عامة وأسواق الأسهم على وجه الخصوص، بل إن العوامل السياسية في الكثير من الأحيان هي الحاسمة في تحديد قرار المستثمرين للتوجه إلى سوق معينة من دون أخرى. ومن حيث المبدأ، لا يمكن للمستثمرين ضخ سيولة كبيرة في سوق بلد غير مستقر سياسياً، أو بلد مهدد بالنزاعات السياسية، حتى لوكان هذا البلد منجماً للذهب أو النفط.
مشاركة :