في بداية الفصل الأول من كتابي الأخير (مزدوجون بلا حدود) الصادر في أواخر عام 2023، تحدثت عن قصة جاسوسية حقيقية وقعت أحداثها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وقيام مخابرات الولايات المتحدة الأميركية بتكريم أحد عملائها الروس، الذي كان يقوم بناءً على تعليمات خارجية بتعيين الجامعيين الروس المتقدمين للتوظيف في وظائف غير تلك التي تخصصوا فيها، لكي يمكثوا وقتاً أطول في التعلم والتدريب، فتطول مدة اكتسابهم للخبرة، وكان يحول دون ترقية أصحاب الكفاءات ويمنع المتخصصين عن قنوات التدريب ومجالات اكتساب الخبرة، مدعياً أنهم لا يحتاجون إلى أي تدريب أو خبرة، ليمنعهم من الالتحاق بركب الإدارة العليا إلا بعد فترة طويلة من الزمن، وكان يشجع ترقية غير المنتجين، حتى بقي في المناصب العليا أو الوظائف المهمة في هذه الوزارة مسؤولون من كبار السن ومن المحاربين القدماء ومن غير المتخصصين في الوظائف أو الأعمال التي يقومون بإنجازها، وهم من الفئة التي تم توظيفها «بالهبل» لعرقلة عملية الارتقاء والنمو. ويبدو أن ما حصل في حقبة الاتحاد السوفياتي كان يمارس عندنا منذ عقود من الزمن حتى فترة قريبة، فأنا شخصياً حصلت على ليسانس في الأدب الإنكليزي (1973)، وفي بداية حياتي المهنية عملت في مجال الكمبيوتر، وهي وظيفة فنية لا علاقة لها بالتخصص الجامعي الأدبي، ولم أتقدم لهذه الوظيفة أصلاً، وكان مسماها «واضع برامج كمبيوتر متدرب» في شركة نفط الكويت (KOC)، بعد أن اجتزت امتحان قدرات، أو ما أطلق عليه حينها (Aptitude Test)، في حين فشل في الاختبار ذاته وفي اليوم نفسه أحد الكويتيين من خريجي الهندسة الصناعية، ورغم دهشتي لسقوط هذا المهندس، فإن دهشتي ازدادت عندما عرفت أن من يشاركني في العمل بدائرة الكمبيوتر أغلبهم من غير المتخصصين في مجال الكمبيوتر، إلا أنني قبلت بالأمر الواقع، وأقنعت نفسي حينها أن علم الكمبيوتر لم يكن معروفاً آنذاك بالقدر الكافي لتشجيع الكويتيين على الانخراط في هذا المجال، وليكون لدينا ما يكفي من خريجي هذا التخصص. وتكرر الوضع نفسه عندما تقدمت للعمل في البنك والتحقت بإدارة التسويق بناء على شهادة الماجستير في الإعلام والتسويق، ولم يكن من بين العاملين حينها من يحمل تخصصا أو حتى خبرة مسبقة في مجال التسويق، وبعد سنوات من الخبرة وسلسلة من البرامج التدريبية المكثفة في مجال الإدارة والتخطيط المالي والمحاسبة وكيفية التعامل مع القروض التجارية، انتقلت إلى إدارة أخرى حيث لم يكن من بين المسؤولين أو المديرين متخصص واحد في مجال البنوك أو التمويل أو المحاسبة أو حتى إدارة أعمال، لكنهم جميعاً حصلوا على تدريب مكثف في المجالات التي ذكرتها، وهو ما يطلق عليه (On the Job Training). وبعد تقاعدي من العمل المصرفي وبحكم خبرتي المصرفية وتخصصي الإعلامي تم استدعائي للعمل كسكرتير تحرير للشؤون الاقتصادية في دار صحافية في وقت لم يكن في شارع الصحافة الاقتصادية حينها صحافي واحد متخصص في مجال الصحافة أو الاقتصاد الإعلامي أو الإعلام الاقتصادي، أو حتى في الإعلام عموماً، إلا ما ندر. فتذكرت ما عانته جمعية الصحافيين الكويتية في عام 1981، في بحثها عن صحافيين كويتيين يتحدثون اللغة الإنكليزية بطلاقة لإجراء مقابلات صحافية مع القيادات السياسية التركية آنذاك، حينها تساءلت عما يجري في الديرة، وأين يذهب المتخصصون في الإعلام؟ ورغم ذلك كنت على يقين بأن ما يحدث في الكويت لا يخرج عن كونه سوءا في التخطيط لاحتياجات سوق العمل، أو فوضى سوق العمل في استيعاب مخرجات التعليم.
مشاركة :