ظهرت فكرة القومية العربية فى الشام الكبير (سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين) حاليًا، وتزعّم التنظير لها- فى بدء الأمر- المسيحيون العرب من الموارنة الكاثوليك والروم الأرثوذكس، متأثرين بالمناخ الذى ساد أوروبا منذ عام 1848، أو ما يسمى «ربيع الأمم» للتخلص من هيمنة الإمبراطوريات، وبناء دولة قائمة على تحديد كل مجموعة قومية ذات سمات ومصالح مشتركة لشكل الدولة التى يرغبون العيش فى كنفها. إرهاصات القومية العربية، يمكن التأريخ لها بحقبة الحكم المصرى للشام فى الفترة من عام 1831 إلى عام 1841، الذى تولى فتحه وحكمه إبراهيم بن محمد على باشا، الذى كان مشروعه- خلافًا لأبيه- قائمًا على «بناء إمبراطورية عربية منفصلة عن الدولة العثمانية»، وكانت حدود هذه الدولة- وفقًا لما صرح به- «آخر بقعة يحدثه ويتحدث فيها الناس معه باللغة العربية». وبعدما عاصر المسيحيون فى الشام مزايا الحكم القائم على رؤية وحدودية عربية، جعلتهم- لأول مرة- مواطنين، لا مجرد رعايا، أو مستأمنين، كما هى الحال فى الحكم العثمانى التركى، وما أعقب الخروج المصرى من مذابح تعرضوا لها عام 1860، وهجرة كثير منهم إلى مصر، بدأ «الربيع الفكرى» للقومية العربية للتخلص من نير الدولة العثمانية. حققت القومية العربية أهدافها الرئيسة، من خلال التخلص من الحكم التركى العثمانى، ونيل الاستقلال من القوى الاستعمارية الغربية، لكنها فشلت فى تحقيق هدفها الاستراتيجى بإقامة «الوحدة العربية»، أو خلق فضاء أمنى واقتصادى واجتماعى عربى، مع الإبقاء على الحدود القائمة، وخصوصية كل دولة على غرار الاتحاد الأوروبى، وغيره من الاتحادات الإقليمية الأخرى. بدأت أزمة القومية العربية فى النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى، عندما تحولت من استراتيجية وهوية إلى أيديولوجيا شمولية من جانب بعض الأحزاب التى تبنت هذه الفكرة، وأى فكرة استراتيجية أو عقيدة دينية تتحول إلى أيديولوجيا من الطبيعى أن تجد لها معارضين وخصومًا، وفى أغلب الأحيان هذه المعارضة ليست للفكرة نفسها، بل لما سيترتب عليها من هيمنة طرف واحد ووحيد، وإلغائه لكل الآخرين بعدما احتكر لنفسه الفكرة وتطبيقها، وهو ما حدث عربيًّا فى ظاهرتى الأحزاب والجماعات القومية والإسلاموية، وخلقهما جدلًا على أمر مفترض لا مجال فيه للجدل عمّا هو ثابت بشأن الهوية الحضارية العربية الإسلامية للأمة. الأسوأ لم يأتِ بعد! لا أعتقد أن هناك أحدًا يمكنه أن يجادل أن الوضع العربى الحالى هو الأسوأ منذ 100 عام، أو عشية الاستقلال، حيث تعانى مصر أزمة اقتصادية طاحنة لم يسبق لها مثيل منذ عام 1882، واليمن، والسودان، وليبيا، ولبنان، وسوريا، والعراق، والصومال، باتت فى عتاد «الدول الفاشلة»، وسط حرب إبادة شاملة يشنها الاحتلال الإسرائيلى على الفلسطينيين فى غزة، وتنتقل الآن بالتزامن إلى الضفة، مع إمكانية لتوسع الحرب الحالية لتشمل جبهات أخرى. رغم هذا الوضع الكارثى، فإن الأسوأ لم يأتِ بعد، ويمكن أن تدخل المنطقة فى مرحلة سنوات مظلمة طويلة. على سبيل المثال، لبنان مهدد بتغيير بنيته السياسية لأول مرة منذ اتفاق الطائف الذى أنهى الحرب الأهلية عام 1989، لا حزب الله قادر على مواجهة إسرائيل، ولا الأخيرة قادرة على القضاء عليه، ورغم تراجع احتمالات الحرب الشاملة فإنها لاتزال قائمة، وإذا حدثت فستفتح المجال لحرب مفتوحة تشتعل على عدة جبهات. داخليًّا، لا يوجد رغم كل الضجيج من بعض الأحزاب المارونية وغيرها من الأحزاب التى تطلق على نفسها «سيادية» قدرة أو قوة لإجبار الحزب على التخلى عن سلاحه لصالح الدولة، أو العودة إلى قرار مجلس الأمن الدولى رقم (1701) لعام 2006، وفى ظل هذا الوضع المعلق والمتوتر، تبدو التسوية التى يمكن أن يقبل بها حزب الله وحلفاؤه فى نهاية المطاف، تحويل لبنان من نظام «المناصفة» بين المسلمين والمسيحيين إلى «المثالثة»، أى ثلث السلطة بيد المسيحيين، والثلث للمسلمين والدروز وبقية الطوائف الأخرى، والثلث الأخير للشيعة السياسية، وهو ما يعنى احتفاظها برئاسة مجلس النواب، والحصول على قيادة الجيش، ودمج عناصر الحزب الراغبة داخل الجيش اللبنانى، وثلث الوزارات، مقابل التخلى عن السلاح، والتحول إلى حزب سياسى، وهو ما يعنى أن تصبح قدرات الدولة اللبنانية وجيشها وقراراتهما بيد حلفاء إيران، وهو وضع قد تقبله القوى الغربية، بل إسرائيل نفسها، مقابل غلق هذا الملف، وترسيم الحدود البرية مع لبنان، ولكنه سيؤدى إلى اختلال جميع الموازين السياسية فى منطقة الشام الكبير، وترتد آثاره السلبية على العالم العربى بأسره. السودان، الذى يمثل الأمن الجنوبى لمصر، ومصدر حياتها عبر مياه النيل، ومنقذها من أزمة غذاء تبدو حتمية فى المستقبل القريب نتيجة محدودية الأراضى الصالحة للزراعة، مع ثبات حصتها من المياه (هذا لو تم الحفاظ عليها ولم تتأثر بسد النهضة، وغيره من السدود المزمع إقامتها)، يعانى حربًا طاحنة يواجه فيها الجيش السودانى (المؤسسة الوحيدة المتبقية من الدولة) ميليشيا الدعم السريع المتمردة، أدت إلى قتل مئات الألوف، وتهجير الملايين فى الداخل والخارج، وضياع تراثه وكل ما حققته الدولة القومية منذ الاستقلال عام 1956. المشكلة الأكبر فى السودان أن الوضع الحالى يمكن أن يستمر عدة عقود مع عدم عودة الدولة، أو التوصل إلى صيغة للتقسيم، لتصبح دولة فاشلة اعتيادية يحكمها أمراء الحرب والعصابات القبلية؛ مما يخرجها من معادلة القوة العربية. ليبيا قصة أخرى لبلد منقسم ما بين شرق وغرب وجنوب، وعدة ميليشيات وقوى سياسية تساندها قوى خارجية، وسط حالة من التطبيع الشعبى والدولى مع عملية الانقسام الحالى دون حلها، أو التوصل إلى صيغة فيدرالية، أو حتى تقسيم يقنن الوضع الفعلى، وهو سيناريو يبدو جاذبًا لكثير من القوى المتمردة، والمخططات الخارجية؛ للدفع نحو انضمام دول عربية أخرى إلى نادى الدول الفاشلة المنقسمة دون تقسيمها. اليمن، الخطر الحقيقى على السعودية، على غرار النموذج الليبى، يعانى انقسامًا بلا تقسيم أو حل، وزاد الوضع خطورة بامتداده إلى مصر مع ما تقوم بها ميليشيا الحوثى فى البحر الأحمر الذى كان يومًا ما بحرًا عربيًّا خالصًا، فى حين تصول فيه اليوم وتجول جميع الأساطيل العسكرية العالمية، مع تهديدات لأمن دول المنطقة، ومشروعات التنمية الأساسية فى البحر الأحمر التى تعتمد عليها مصر والسعودية فى تطوير الاقتصاد وتحديثه. سوريا مأساة أخرى تُضاف إلى مآسى العالم العربى، وحجم ما لحق بها من دمار وقتل وتهجير يفوق بمراحل النكبة الفلسطينية، ووصل فيها الوضع إلى مرحلة لا يمكن معها عودة الماضى بأدواته نفسها، ممثلًا فى نظام الأسد، ولا التغيير الجذرى الذى كانت القوى المعارضة تطمح إليه. أما العراق فغير قادر بعد على فرض هيمنة الدولة على السلاح، وهو أحد أهم مظاهر الدولة الحديثة، والصومال يعانى تفككًا وبلطجة سياسية وعسكرية من إثيوبيا. تخيل أن هذه الفوضى ستتوقف عند حدود هذه الدول السابق ذكرها، أو جوارها القريب، أو أن العالم العربى سيعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، بعد نهاية الحرب، سواء بقيت حماس أو قُضِى عليها، أو أن النظام الإيرانى سيظل فى حالة الهجوم عبر حروب الوكالة، مع تحمل الحصار والعقوبات الاقتصادية إذا وصل ترامب إلى السلطة لكى ينتظر بهدوء أن ينقلب الشعب عليه دون تحرك منه يشعل المنطقة ويخلط فيها الأوراق، أو- وفق السيناريو الثانى- إذا وصلت هاريس إلى السلطة، وإمكانية عقد صفقة تمنحه ما يريده من «شرعنة» لنفوذه فى المنطقة، أو بقاء الظاهرة الإسلاموية العنيفة فى حالة جمود، أو تخيل نهاية ظاهرة الإسلاموية السياسية، أعتقد أنه قد يبدو سيناريو أبعد من الخيال، فالمنطقة مقبلة على مرحلة قد تكون أكثر سوداوية وكارثية مما هى عليه الآن، وربما الأسوأ لم يأتِ بعد، لكنه ينتظر فى مرحلة تخمر قبل أن تنطلق الفوضى الجديدة المدمرة. من رحم الأزمات تولد الفرص فى ظل الأوضاع التى سبق ذكرها، وهى مجرد أمثلة بسيطة على كوارث أكبر لا يمكن اختصارها فى مجلدات، فضلًا عن مقال، تفرض قيام «مشروع عربى» تقوده وتتولى الدعوة إليه القوى الرائدة المتبقية فى العالم العربى، وهما بالتحديد مصر والسعودية، لتشكلا قاطرة لهذا المشروع بحكم ما لديهما من تاريخ، وقدرة وقوة عسكرية واقتصادية وشعبية، ومكانة وشرعية تاريخية فى نظر سكان المنطقة والعالم، للتصدى للفوضى الحالية، والحد من توسعها؛ ومن ثم البدء بإعادة تنظيم الوضع العربى. الحديث هنا لا علاقة له بالعواطف، أو الرومانسية، ولا هو تكرار لأحاديث قديمة عن الروابط التاريخية والثقافية واللغوية والعرقية والدينية (رغم أهميتها)، بل عن المصالح البراجماتية المجردة، وما يفرضه الجيوبوليتيك على الجميع، واستحالة النجاة الفردية، أو التنازع على «زعامة» منفردة على بقايا حطام عربى، بل هو مشروع للبقاء، يتبعه الاستقرار، ومن ثم الازدهار، فى ظل تشابك جميع الملفات وترابطها نتيجة الجغرافيا؛ القدر الوحيد الذى لم يتوصل الإنسان بعد إلى إمكانية تغييرها. الفرصة الآن لقيام هذا المشروع- رغم كل الأزمات- هى الأفضل على الإطلاق إذا ما قُورنت بالظروف السابقة منذ استقلال الدولة العربية. العالم ليس ثنائى القطبية، ولا أحادى القطبية؛ بل يعيش حالة من الفوضى مع تفوق أمريكى. القوى الإقليمية غير العربية- مثل تركيا- منهكة اقتصاديًّا، ومنكبة على حل أزماتها الداخلية، وإيران وإسرائيل فى حالة صراع مفتوح أنهكهما فى ظل معركة المنتصر فيها (لو كان هناك مجال للنصر) مهزوم، وروسيا مشغولة فى صراعها مع الناتو فى أوكرانيا، والصين مهتمة بعلاج أزماتها الداخلية بعد «كوفيد- 19»، وتحقيق حلم الحزب الشيوعى الصينى بضم تايوان إلى البر الصينى قبل الذكرى المائة من سيطرته على السلطة التى تحل عام 2049. الاتحاد الأوروبى تعصف بدوله الأزمات والصراعات الداخلية، وكل هذه القوى العالمية لا يوجد بينها حد أدنى من اتفاق على قواعد الاشتباك، أو تقسيم النفوذ لتتوافق مصالحهم ضد مصالحنا العربية كما حدث عبر التاريخ مرارًا وتكرارًا. يوفر الوضع الإقليمى والدولى، مع التراجع المؤقت لظاهرة الإسلاموية، الفرصة المناسبة لتأسيس نواة مشروع عربى لتنظيف الفوضى الحالية، وحصارها من أن تتمدد، وربما قيادة مشروع عربى موسع نحو التنمية لعلاج أسباب التوترات من جذورها. نظام الفرق المتعددة تعتمد أنظمة الفرق المتعددة (MTSs) على «فريقين أو أكثر يتفاعلان تفاعلًا مباشرًا ومترابطًا؛ استجابةً للطوارئ والتحديات، أو لتحقيق طموحات وإنجازات تصب نحو تحقيق الأهداف الجماعية». ما يميز هذا النظام «أن تحديد حدود أنظمة الفرق المتعددة تحكمها حقيقة مفادها أن جميع الفرق داخل النظام، وتسعى إلى تحقيق أهداف قريبة مختلفة، وتشترك فى هدف بعيد مشترك واحد على الأقل؛ وبذلك يظهر الترابط المتبادل بين المدخلات والعمليات والنتائج مع فريق آخر على الأقل فى النظام». * باحث فى التاريخ والعلاقات الدولية. متخصص فى الشؤون الأوراسية ينشر بالتعاون مع CAES مركز الدراسات العربية الأوراسية
مشاركة :