كنا إلى وقت قريب (وما زال بعضنا) يشمت بالعالم الصناعي ويتهمه بالتخلي عن عجائزه وضعافه ومقعديه، بإيداعهم في مراكز العناية الاجتماعية خارج المنزل، وكنا نزكي أنفسنا ونزعم أن مثل هذا لا ولن يحصل في المجتمعات الإسلامية. اللهم لا شماتة، داهمتنا متطلبات العيش الجديدة التي لا ترحم، فأصبحنا لا نستطيع القيام بمتطلبات الكبار والعاجزين في البيوت، ولا نحن وفرنا لهم المراكز المتخصصة والمريحة التي وفرها العالم الصناعي لفئاته تلك منذ عقود طويلة. مستشفياتنا وصلت إلى حدود الانهيار الخدماتي بسبب الامتلاء لفترات طويلة، أحياناً بالشهور والسنوات، بحالات عجز لا يستطيع الطب إيجاد حلول لها لأنها تحتاج فقط إلى رعاية تمريضية واجتماعية. التدخل الطبي المباشر في مثل هذه الحالات يكون مطلوباً فقط عند الانتكاسات المرضية الحادة، بهدف إرجاع الحالة إلى وضع الاستقرار السابق. إذاً أصبح لدينا أعداد كبيرة جداً من المحتاجين إلى خدمات صحية وتمريضية غير محددة بزمن ولا شفاء لها في الاحتمال المنظور حسب المعطيات الطبية. أين يذهب أصحاب هذه الاعتلالات، أو أين يمكن لأهاليهم توفير العناية المقبولة لهم، شرعياً واجتماعياً وصحياً؟. الطاعنون في السن وأصحاب الاعتلالات الدائمة من بقايا الحوادث والجلطات الدماغية والمصابون بحالات مزمنة ومتقدمة من السكر والضغط وتصلب الشرايين والضمور المفصلي والعضلي، وتلك الفئات المريضة التي لا عائل لها أو تخلت عنها الأسرة، والمحتاجون بشكل مزمن إلى تنفس وتغذية بالأجهزة والأنابيب، والمعوقون بالكامل جسدياً وعقلياً أو نفسياً بحيث تتعذر رعايتهم بالمنزل، وغير ذلك الكثير من الأمثلة، كل هؤلاء كيف يستطيع المجتمع أن يوفر لهم ما يليق ويتوجب من أساسيات الرعاية والمحيط الاجتماعي المريح والحركة الضرورية خارج الجدران الأربعة، كواجب شرعي واجتماعي لا يمكن التخلي عنه؟. حسب علمي لم يكن في هذه البلاد الشاسعة الواسعة ولا مركز واحد متخصص في الرعاية الصحية لذوي الاعتلالات والحاجات المزمنة الممتدة والمستقرة. هذا ما كنت أعتقده، وبناءً عليه كتبت مراراً في هذه الزاوية عن شؤون رعاية المسنين وذوي الاحتياجات المزمنة والخاصة. قبل أيام اتصل بي زميل كان أحد طلبتي في كلية الطب قبل أكثر من ثلاثين سنة. لن أذكر اسمه، مكتفياً بالقول إنه استشاري في طب الأسرة والمجتمع ويحمل درجة الماجستير من أمريكا في مجال الرعاية الصحية للمسنين وذوي الأمراض المزمنة. اقترح علي زيارة ما أسماه «مستشفى واحة الصحة» الواقع في طريق الملك عبدالله بين مركز الملك سلمان الاجتماعي ومعرض الكتاب. لبيت دعوته مسروراً، وفوجئت بما سمعت ثم شاهدت من خلال جولة في أقسام هذا المستشفى. عندما عاتبته على إهمال الترويج الإعلامي للمستشفى قال إنهم لا ولم يحتاجوا إلى ذلك مطلقاً، لأن جميع إمكانيات المستشفى بما يشمل الثلاث مائة سرير للتنويم حجزت قبل افتتاحه. مستشفيات الرياض الكبرى بادرت من غير طلب إلى حجز مواعيد انتظار لتحويل الحالات المتكدسة عندها وتنطبق عليها شروط العناية طويلة الأمد. سألت عن الحاجة في الرياض وفي كافة أنحاء السعودية إلى مثل هذه المستشفيات، فقال إنها بلا حدود، إذ لا يوجد طولاً وعرضاً سوى هذا المستشفى. ماذا يقدم مستشفى واحة الصحة من خدمات؟. لكي لا تدخل الدعاية في المقال أقترح على المهتم التواصل والاطلاع الشخصي. أشير فقط إلى واحدة من أنبل ما يقدمه المستشفى ويسميه برنامج «قريبي»، ويهتم: أولاً بتسهيل الوسائل لعوائل المرضى للتواصل معهم وزياراتهم من داخل وخارج الرياض حسب ظروفهم، وثانياً يهتم بمبادرة تكوين عائلة بديلة من داخل العاملين في المستشفى ومتطوعين من خارجه، تتبنى المريض الذي تقطعت به السبل ولا عائلة له أو المنقطعة صلاته بأفراد عائلته لسبب من الأسباب قد يكون منها العقوق والإهمال. يوجد في مستشفى واحة الصحة مرضى على أجهزة التنفس والتغذية الصناعية بشكل مستمر، ومعوقون بدنياً وعقلياً يحتاجون إلى رعاية ومراقبة دائمة، ومرضى فقدوا الصلات بالمجتمع الخاص والعام. الرقابة المركزية على كل غرفة وصالة وممر متوفرة على مدى أربع وعشرين ساعة. ليس في هذا المقال نية الدعاية والترويج، ولذلك أختتم بدعاء الله ورجائه أن يوفق من فكروا ونفذوا هذا المشروع، ولأهيب بالموسرين القادرين أن يتسابقوا إلى الاقتداء بفكر وأهداف هذا المستشفى، كل طرف في مدينته ومقر عمله. الحاجة ماسة والهدف نبيل والله من وراء القصد وهو الموفق.
مشاركة :