ليس باسمنا غيلة حلب وحرق كلمة الشرف وحس النقد أحياء - د.فوزية أبو خالد

  • 5/4/2016
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

أتذكر أن مجموعة من الشابات والشباب منا ومن سوانا في العالم العربي لما لم يجدوا ما يعبرون به عن احتجاج أرواحهم على إعلان أمريكا قرارها المنفرد الظالم بمحاربة العراق، واحتلاله أرضه، وتقتيل شعبه عام 2003، قرروا الصيام. البعض صام أيامًا، والبعض صام أسابيع. ومع أن عملية صيام مواطنين عرب لم توقف العمليات الوحشية للحرب والاحتلال وسط صخب آلات الحرب العسكرية والإعلامية معًا مقابل الصمت العربي المرعوب من امتداداتها، إلا أنها عبّرت لأصحابها على الأقل عن أن باستطاعتهم اتخاذ موقف ضميري رافض للظلم والعدوان، وإن أمام أنفسهم. فإذا استحال تعبير الاحتجاج الحر أمام الملأ لإحداث التأثير المنشود لتصحيح موقف حيف، أو الاعتراض على ظلم لإيقافه عن حده، فلا أقل ألا يفقد الإنسان إنسانيته واحترامه لنفسه كاملاً بمضيه في روتينه اليومي من أكل وشرب وتناسل دون رفة احتجاج ولو بالإنكار في القلب أو الدعاء على الظالم. وذلك أنه إذا كانت الأفعال الشائنة تمثل انتهاكًا لإنسانية البشر فإن الصمت إزاء الأفعال البشعة، أو التردد في ردها، أو العمى عن نقدها ولو بتسجيل موقف احتجاجي عليها، يعتبر إهانة وتهديدًا مرعبًا لعمود أساسي من أعمدة الإنسانية، هو عمود الخلق القويم والفطرة السليمة. وفي هذا السياق المتمرد على الانحناء لرياح الشر، مهما كانت محدودية مثل هذا التمرد، جاء وقتها بيان «ليس باسمنا»، الذي وقّعه عدد من الكتّاب والأكاديميين من الأمريكيين، منهم إدوارد سعيد ونعومي تشاومسكي؛ ليعلنوا تبرُّؤهم من تلك الحرب غير العادلة، وذلك كأضعف الإيمان، ما دام ليس باستطاعتهم التدخل لمنعها أو وقفها. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يكف - مع الأسف - مسلسل سفك دماء مجتمعات عربية بأسرها وانتهاك جغرافيا وتاريخ عدد من ديار العرب ومدنهم العريقة في العراق واليمن وليبيا وبلاد الشام بأيدٍ أجنبية، وبمخالب الطغاة والخونة من أبناء الجوار ومن أبناء البلاد، وكأننا في ماراثون إجرامي مستدام لتركيع المكان، وخلع كلمة ضمير من قواميس الأبجدية في كل اللغات. فليس إلا بقتل كلمات مرهفة، مثل الضمير والأمل والحرية والكرامة، يمكن أن تمر جريمة اغتيال الأوطان فيما تمضي وتيرة الحياة الروتينية في المحيط القريب والبعيد للحريق، لا يقطعها إضراب عن طعام، ولا امتناع عن شراب، ولا تمرد على سلطان النوم، ولا صلاة غائب، ولا دعاء قنوت، ولا مظاهرة احتجاج. فبأي حبر نكتب اليوم اسم مدينة حلب التي استطاعت بدم نسائها ورجالها، بأرواح أطبائها (محمد وسيم معاذ، حاتم، صلاح، فاطمة، ليلى)، بدماء تلاميذها (تيسير وبشرى وفيحاء)، أن تخرجنا على غيلة الأخلاق، وترش قليلاً من ماء الحياء على وجه العالم؛ فتعيد شيئًا من إرادة الحياة للضمير الإنساني. فما تلك المظاهرات التي خرجت في أوروبا أمام السفارة الروسية الوالغة مع إيران وطغمة بشار البعثية الحاكمة في دم الشعب السوري على أثر حريق مدينة حلب، المدينة التاريخية الصهباء النجلاء الشهباء، إلا احتجاج على محاولة قتل الضمير وإعدام كرامة الإنسان والأوطان. وما تلك اللافتات الحمراء التي رُفعت أمام البيت الأبيض بواشنطن، وتلك الصور المروعة التي احتلت الصفحات الأولى من الصحف العالمية، كصورة السيدة الحلبية السورية الموشحة بالدم وبتراب بيتها، التي جاءت على نصف صفحة النيويورك تايمز، والتي ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي العربي والعالمي، إلا صرخة احتجاج وإن خفتت أو علت على المحاولات الشرسة لكسر حوض مدينة حلب، ولقطع أعناق القيم والأخلاق. وفي سياق الاحتجاج السلمي نفسه على فداحة الحروب العدمية، لم تكن صلاة الغائب التي أُقيمت في الإسكندرية وعدد من المدن العربية على شهداء حلب مع ما لف الكرة الأرضية عبر الواتساب من دعاء للحلبيين ورسائل انتقاد لصمت العرب والعالم ومنظمات حقوق الإنسان إزاء تشتيت الشعوب واختطاف أوطانها إلا صورة شخصية لاحتجاج إنساني عام على محاولة قتل الضمائر وإعدام مواثيق الشرف محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. إن المبادرة وتأييد مواقف الاحتجاج السلمي ومواقف تطوير الحس النقدي السليم اليوم تجاه الأحداث التجريفية في المنطقة، مثل غيلة مدينة حلب ومثلها حصار مدينة تعز من قِبل الحوثيين ونهش مدينة مصراتة وتفتيت أربيل والموصل والرمادي وعين العرب وسواها من مدن السلام التي تحولت على أيدي الطغيان والعدوان ونيرونات الهيمنة إلى ما يشبه المقابر الجماعية، مواقف لا يجب التفريط ولا الاستهانة بها مهما بدت مثل هذه المواقف صغيرة أو طفولية أو حتى حالمة. فهي في رمزيتها ليست إلا الشمعة التي لن يسمح التنازل عنها أو التقليل من شأنها أو السماح بإطفائها إلا الغرق النهائي في طوفان الظلم والظلام لا سمح الله.

مشاركة :