لا تزال السكين موغلة في الجرح, ولا تزال الفراشة مرعوبة من الطعنة, ولا يزال الماء يلبس الحداد, ولا يزال جسد الشاعر علي الدميني حاراً متورداً متيماً بهوى البلاد, ولا تزال روحه ترف في كل لحظة من عتمة الليل إلى عتمة النهار، وبين العتمتين لاتزال العيون عيوناً من الدمع السري تخالط ثراه، لا زالت فوزية العيوني تسهر معه كعادتهما إلى مطلع الفجر يقرآن ويزرعان النعناع، ولا تزال رائحة مسكه عالقة بيد محمد الدميني من مصافحته صباحاً مساءً، ولاتزال سوسن ونجلاء متدلهتين به تدله البنات بحنان الآباء الذين ينجحون في خلع «جلباب الأب» ويتحولون إلى أصدقاء. لازلتُ أكتب له رسائل واتساب كلما ضقتُ بمحاولته العبثية للابتعاد وأشكو منه إليه، لازلتُ أهرع للجوال لأهاتفه كلما اشتد الضباب السياسي لأجد في درج مكتبه شموساً من الأمل لا ينفد ضياؤها، لازلتُ أفكر أنني في زيارتهم القادمة للرياض سأطبخ صحن البامية الذي يفضل مع رز الزعفران .. لا زلت على موعد مع ضحكته دائمة الطفولة ومع قصائده المجددة دائمة المجد.. فكيف بالله سولت لي نفسي أن أجاري علي الدميني في تقديس نعمة الصداقة وفي الإخلاص للأصدقاء. فأقبل دعوة الأصدقاء من الشرقية للمجيء إلى الدمام على عجالة زيارتي الخاطفة لمعرض الكتاب بالرياض .. فآتي إلى هنا راكضة لاهثة متقطعة الأنفاس. آتي لأقف وجهاً لوجه أمام جوارحي المتقرحة .. أمام لوعة الشعر ووجد النثر ..وأين ... على الأرض الساحرة التي جذبت الشاعر من أعالي جبال السروات جنوباً لغابات النخل وحرقة الآبار وتعدد الأطياف شرقاً فسقاها بإسراف نبيذ دمه وجذوة شبابه مما يجعلني لا أدري من أين أبدأ ولا أعرف ماذا أقول في حضرة هذا الوفاء المألوف منكم وهذا الجرح العميق الزاهي نافر الأعناق من حبري وروحي. كنتُ أنوي زيارة صديقة عمري ورفيقة درب الشاعر فوزية العيوني والأبناء عادل وخالد وشيماء وبقية السرب بالمنطقة الشرقية في جنح لحظة خاطفة متسترة بقدر الإمكان على شظايا روحينا المتطايرة لعدة أشهر موجعة بين الرياض والدمام ونيويورك بين مستشفى التخصصي وبين تخصصي الشرقية .. كنت أعلم قدرتها/ قدرة فوزية الأسطورية منذ تجارب غياب علي الموحشة وهي شابة صغيرة على عصيان الجزع وعلى شأف شوكة الفجيعة وعلى دفن حزنها الفاره في أقصى نقطة من مغاور الوجدان.. ولم يدر بخلدي خيانة هذا التخطيط الشخصي المرهف بهذا القدر الواسع من التقدير والحب الجارف الجمعي و الإجماعي على جمالية تجربة الشاعر. كان المفترض حسب اقتراح مضيفنا العزيز أ. جعفر الشايب بروحه الشبابية الوثابة أن يكون حديثي في ملتقى الثلاثاء الثقافي وجمعية الثقافة والفنون بالدمام عن «الاتجاه الإنساني في تجربة علي الدميني الشعرية». وكنتُ أنوي الإنحراف قليلاً وليس كثيراً فأكتب عن «تجربة علي الدميني شاعراً مجدداً ومثقفاً عضوياً» إلا أنني مابدأت العمل في هذا الوقت القصير إلا واكتشفت كم أن المهمة شاقةُ وكم أن الطموحَ شاهقُ كم أن الشوقَ جارحُ وكم هو المزارُ بعيدُ ولعلني هنا أضع مجرد رؤوس أقلام أو علامات من الريش على طريق عمل دراسة لا بد من العودة له والانكباب عليه بشكل تبتلي عميق سواء في بحث الاتجاه الإنساني في شعر علي الدميني أو في تناول تجربة علي الدميني شاعراً مجدداً ومثقفاً عضويً. وقد أضطر هنا لاختزال مجمل ملامح تجربة علي الدميني كشاعر مجدد وكمثقف عضوي في النقاط التالية : 1 - تميز علي الدميني كشاعر مجدد بجرأته المبكرة في الخروج على الشكل العامودي للقصيدة وفي عدم الارتهان للأغراض التقليدية للشعركالرثاء والمدح والهجاء والغزل وذلك باختيار تجربة شعرية مغايرة للسائد الأعم تمثلت في اختيار شكلٍ ومضمونٍ جديدين للشعر يختلف عما جرت العادة عليه. فعلى مستوى الشكل الشعري حط اختيار علي الدميني على قصيدة التفعيلة من أشكال الشعر الحر الذي كان قد أسست له وطورته منذ منتصف القرن الماضي بعض الأسماء العربية الكبيرة نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، صلاح عبدالصبور، نزار قباني، أدونيس، فدوى طوقان ومحمود درويش من العالم العربي . وقد جاء اختيار الشاعر علي الدميني لقصيدة التفعيلة كشكل من أشكال الشعر الحر الذي كان جديداً على منتج الساحة الثقافية بالمجتمع السعودي، مجايلاً أو سابقاً عدداً من مجايليه المنتمي بعضهم باكراً لجيل السبعينيات وبعضهم الآخر لجيل الثمانينيات ومنهم الشاعر سعد الحميدين، محمد الثبيتي، عبدالله الصيخان، عبدالله الزيد، محمد الحربي وخديجة العمري، أحمد عايل فقيهي ولاحقاً الشاعرة أشجان هندي، وسابقاً عليهم جميعاً من أواخر الستينيات الشاعر محمد العلي. أما على مستوى تجديد المضمون الشعري فقد اجترح الشاعر علي الدميني تقديم مضامين مجددة تنسجم من شكله الشعري الجديد وتعبر عن أشواق الشاعر ونبوءاته وقلقه الشعري في العصر الحديث من نهاية القرن العشرين كما تعبر عن جدل علاقة الشعربالإطار الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه الشاعر.وقد تنوعت تلك المضامين من قراءة الواقع بعين نقدية تساؤلية إلى قراءة التراث الشعري الكلاسيكي بعين عصرية بما يعكسه مثال محدد يمكن الإشارة له هنا وإن على عجالة في ذلك التعالق الشعري والقيمي بين معلقة الشاعر طرفة بن العبد وبين الشاعر علي الدميني في قصيدة الخبت. 2 -تعدد الأطياف الإبداعية في ذائقة علي الدميني الشعرية وتعدد الشكل الشعري في اجتراحه التجديدي فمع اختيار علي الدميني من الشعر الحر لقصيدة التفعيلة وإخلاصه لذلك الاختيار إلا أنه لم يَنْجُ بتقدمه في التجربة من عدوى قصيدة النثر وطاقاتها الخلاقة، بجانب تميزه من مجموع شعراء التفعيلة على ساحتنا المحلية منذ بداية تجربته الشعرية بممازجته التجديدية بين قصائده الحديثة وبين موروث الشعر النبطي والشعر الشعبي من ناحية، والممازجة مع موروث المعلقات وعيون من القصائد في شعر اللغة العربية الفصحى الخالص من ناحية أخرى . وقد قابل ذلك التعدد في تجربته كشاعر مجدد تركيز اهتمامه الثقافي على تعدد أطياف النسيج الاجتماعي في تجربته كمثقف عضوي بما جعله صديقاً وحليفاً حريصاً على أن تحصل كل مكونات المجتمع المهمشة على الموقع الذي تستحقه في متن الحاضر وفي متن صناعة المستقبل وفي نسغ أعماله الشعرية. 3 - عمله إبداعيٌّ ونوافذٌ إبداعية على قضية التنوير. فمقابل خيط الضوء التنويري الذي يشع عتمة ونور من أعماله الشعرية من مطلع العنوان لأخمص القصيدة، هناك النوافذ الموازية التي فتحها للعمل الإبداعي التوعوي بمختلف أشكاله الأدبية من القصيدة إلى المقال ومن النصوص المفتوحة إلى البحوث والدراسات وتمثل ذلك في ثلاثة مشاريع ثقافية. منها ما اجترحه باكراً ومنها ما انتدب نفسه وصحبه لمهمتها في أقسى ظروف المد والجزر. وتمثل ذلك في وقوفه مع مجموعة من مجايليه في الدفع قدماً على طريق التحديث والتنوير بتركيز محلي وبأفق عربي وراء الدور الطليعي الذي اضطلع به ملحق المربد الثقافي الصادر عن جريدة اليوم إبان السبعينيات الميلادية، مبادرته قبل منتصف التسعينيات الميلادية لتأسيس مجلة النص الجديد مع ثلة من مجايليه كمؤسسين ومحررين (المرأة مؤسسة لمطبوعة أدبية ومشاركة في هيئة التحرير لأول مرة )، مبادرته الإلكترونية المبكرة أيضاً في تأسيس منبر الحوار والإبداع بداية من العقد الأول في الألفية الثالثة. 4 - شغفه الإبداعي كشاعر وإخلاصه الفكري كمثقف عضوي على تطوير موقف نقدي من داخل الحركة الثقافية للساحة المحلية يتأسس على استقلالنا الذاتي مع عدم التفريط في العلاقة التبادلية مع حركة النقد العربية والعالمية، وكان ذلك في مشروع علي الشعري والثقافي مصحوباً بالحرص على التوثيق ما استطاع لذلك سبيلاً للمنتج الثقافي الوطني وإنقاذه من النثار الصحفي ومن الطباعات التجارية العجلى, وتمثل الجانب الأول من هذه النقطة في كتابيه أمام مرآة الشاعر محمد العلي وكتابه شجر الأغاني الذي قدم فيه قراءة شاعرية ونقدية في آن عن تجربتي الشعرية باطلاع تفصيلي على تحدياتها منذ ديوان إلى متى يختطفونك ليلة العرس إلى الديوان الرابع عشر ملمس الرائحة. أما الجانب الآخر فتمثل في عمله التتبعي المضني لجميع أعمال رفيق دربه رحمهما الله عبدالعزيز المشري القصصية والروائية والمقالية حيث قام بطباعتها جميعاً من جديد في مجلدين جميلين ومقدمة تسجيلية ضافية. بالإضافة لكشفه عن بعض مجاهل أعمال عبدالعزيز المشري الإبداعية ومنها كتاب شعري مكون من قصائد نثركتبها المشري بالتجاور مع تجربته التشكيلية. وقد وضع الدميني بذلك العمل المترع بالوفاء الكتاب الأدبي السعودي مضموناً وشكلاً إخراجاً وتصميماً ولأول مرة في مصاف ماكنا وقتها لانراه إلا في كتب ومجلدات وجوه الأدب العربي مثل يوسف إدريس ومحمود درويش 5 - الملمح الخامس من ملامح تجربة علي الدميني كشاعر مجدد وكمثقف عضوي في اجتهادي ..هو فردانية التجربة وتعدد أشكالها وتعدد مشاربها الثقافية. فهو شاعر ولكن بهويته الشعرية اجترح أشكالاً أدبية أخرى منها تجربته الروائية « الغيمة الرصاصية « ومنها كتابته السردية لسيرة المعتزل الذي عاش تجربته كمثقف ولكنه أبى إلا أن يشعرنه في كتابة توثيقية شجية. 6 -احتفاؤه بالحياة في كل أحواله احتفاؤه بالحزن والفرح بالأصدقاء والأعداء بالعشق وبالفراغ بالربيع الشفيف وبالفصل البهاري العاصف، احتفاؤه بالطفولة بالريح بالتحولات واحتفاؤه بالنساء، احتفاؤه احتفاء المحاربين بالحياة وبالموت معاً. ولا تزال ترن في مسمعي من لقائنا الأخير بالحي الدبلوماسي في الرياض بحضور الغالية فوزية العيوني.. كلماته غير الهيابة « صحيح يبري عودي المرض ويعصر روحي الكيمياوي ولكن إن كان موتي وشيكاً فمرحباً ألف». 7- انفتاحه على ثقافة التراث والثقافات العالمية الحديثة في آن وهذه للأمانة حالة معرفية قليلة في جيله فتجد منهم من هو مقتصر في ثقافته على الثقافة التراثية العريقة، ومنهم من هو غارق في الثقافة الحديثة وحسب، بينما تجربة علي الدميني الشعرية والثقافية تجمع بين الحسنيين. الملمح الأخير الذي سأقصر تناولي عليه يتمثل في القول إنه بالرغم من إنغماس الشاعر علي الدميني في حب الوطن وفي التفاني فيه بكل قطرة في دمه وبكل نبض في عروقه وبرغم إنغماسه في معاشه وأحلامه بالهم الوطني من صمامات القلب حتى النخاع فلم يكن مشروعه الشعري بأي شكل من الأشكال رهين السياسة والتباساتها. فعلي الشاعر لم يركب قط في شعره موجة الالتزام « التقيدية» لا بالمعنى الأيدولوجي ولا بالمعنى النرجسي. وبهذا فقد عاش الشاعر علي الدميني رحمه الله ولم يزل يعيش روحاً حرة مستقلة في تجربته كشاعر مجدد وفي حياته كمثقف عضوي عاشقٌ لسموات الشعر ولأرض بلاده.
مشاركة :