وبعد أن كان «الموبايل» جهازًا سحريًا يقرب الحبيب مهما بعد أصبح قنبلة «ليثيوم» يمكن أن تقتلهما معا. لم نعد نمشى على التكنولوجيا بل أصبحت هى التى تمشى علينا أو تمشى فى جنازتنا. هكذا تقول رسالة الموت عن بعد التى تلقاها اللبنانيون فى جهاز الاستدعاء «بيجر» أو جهاز اللاسلكى «وكى توكى». كان مخطط قتل خمسة آلاف شخص فى يومين فى مجزرة سيبرانية لم تحدث من قبل بتفجير بطاريات «الليثيوم» بكبسة زر من مسئول تقنى فى الاستخبارات الإسرائيلية دون أن يغسل يديه من لترات الدم البشرى التى سالت. وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» ما حدث بأنه «حصان طروادة» فى العصر الحديث. وضعت إسرائيل متفجرات فى أجهزة الاتصالات التى استوردها «حزب الله» فى حيلة يصعب اكتشافها ثم كان ما كان. بدأت المجزرة فى الساعة الثالثة والنصف عصرا حين راحت أجهزة «البيجر» فى الصفير لتنبيه عناصر الحزب إلى وجود رسالة من القيادة فى «سيمفونية» من النغمات الموسيقية الصاخبة والناعمة. لكن الرسائل لم تكن من القيادة وإنما من وحدة الحرب السيبرانية الإسرائيلية. ما إن ضغط متلقو الرسالة لفتحها حتى بدأت أصوات الانفجارات والصرخات تتوالى وساد الذعر فى المستشفيات والشركات والبيوت والبنوك والمتاجر فى أنحاء البلاد. امتدت الانفجارات من حاملى «البيجر» إلى من تصادف وجوده بالقرب منهم وتعالت صرخات الجميع وسقطوا يتلوون من الألم. فى اليوم التالى حدث الشىء نفسه مع أجهزة اللاسلكى. لم يكن كل الضحايا من حزب الله كما كان للأطفال الذين لا ذنب لهم نصيب من الموت. لم تفرق إسرائيل بين لبنانى عضو فى حزب الله ولبنانى عضو فى حزب الكتائب وساوت فى الموت بين لبنانى شيعى ولبنانى مسيحى بل إنها لم تهتم بتنبيه عملائها فى لبنان لما سيحدث وفقدت بعضا منهم. حسب تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية (الأمريكية) فإن فى لبنان ١٨ طائفة دينية معترفًا بها غير الطوائف السرية التى تمارس طقوسها فى الخفاء إلى جانب ٤٢ حزبا سياسيا فى بلد لا يزيد عدد سكانه عن ٥.٥ مليون نسمة مما فرض عليه صراعات ونزاعات وخلافات شبه يومية. لكن ما حدث وحد بين الخصوم وجمد ما بينهم من تناقضات فى حالة غير مسبوقة من الوحدة الوطنية حتى ولو لبعض الوقت لعله يستمر طوال الوقت. إنها خصلة عربية شهيرة أن تفرقنا الحياة ويجمعنا الموت وكأن الموت بالنسبة لنا أرقى من الحياة. لم يتردد لبنانى واحد فى التبرع بالدم أو نقل مصاب إلى مركز علاج أو تقديم طعام للضحايا. ولوحظ أن أغلب الإصابات فى العيون مما فرض على حزب الله نقل المصابين من رجاله إلى سوريا وإيران فى طائرات خاصة بعد أن ضاقت بهم مستشفيات لبنان. لكن المجزرة التى تمت فى دقيقتين على يومين فرضت سؤالا صعبت الإجابة عليه. ما الذى حدث؟ كيف حدث؟ إن حزب الله لم يتسرع فى تقديم إجابات مرضية وفضل انتظار لجان التحقيق التى شكلها حتى تحسم الأمر وغالبا ما سيكتشف تقصيرا أو اختراقا فلا ينشر التحقيقات ويكفى على الخبر مجورا. على أن خبراء الحرب السيبرانية فى وزارات الدفاع وأجهزة الاستخبارات لم ينتظروا نتائج التحقيق وسارعوا بما يملكون من خبرات ومعلومات بتفسير ما حدث. دون تردد اتهموا إسرائيل بأنها وراء العملية. وأكدوا أن تفخيخ وتفجير أجهزة الاستدعاء وأجهزة اللاسلكى حلقة جديدة متطورة فى الصراع المستمر بينها وبين حزب الله منذ عام ١٩٨٥. وأشاروا إلى أن الصراع انتقل من جنوب لبنان إلى شماله وشرقه وغربه حيث ينتشر أعضاء حزب الله حاملين «البيجر» واللاسلكى. ووصفوا العملية بأنها معقدة وصعبة وبدأت قبل وقت طويل حسب ما كشفوه لصحيفة «نيويورك تايمز». بدأت العملية بضغط من «حسن نصر الله» أمين عام حزب الله استمر سنوات لتغيير وسيلة الاتصال بين القيادة والأعضاء من الموبايل إلى البيجر. كان من السهل التجسس على الموبايل وتحديد أماكن القيادات التى تريد إسرائيل التخلص منها بالقتل. وعلنا حذر «حسن نصر الله» من استخدام الموبايل الذى يحمله أعضاء الحزب وزوجاتهم وأبنائهم قائلا: «هذا هو العميل الذى يبلغ عنكم العدو». وطالب بوضعه فى صندوق حديد وغلقه. وحسب «نيويورك تايمز» فإن تنديد «حسن نصر الله» بالموبايل جاء بعد ما عرف من الحلفاء فى إيران أن إسرائيل توصلت إلى وسائل جديدة لاختراق الهواتف وتفعيل ما بها من ميكروفونات وكاميرات عن بعد للتجسس بسهولة صوت وصورة على أصحابها. وبدأ الحزب فى استخدام أجهزة البيجر رغم أنها محدودة القدرات إلا أنها تستقبل الرسائل دون أن تكشف عن مواقع المستقبلين وتعرضهم للخطر. لكن يبدو أن حزب الله مخترق حتى الدائرة الضيقة القريبة من «حسن نصر الله» فما إن تقرر شراء البيجر حتى عرفت إسرائيل بالخبر. بل إن الحزب بدأ فى فحص ملفات أعضائه حتى يكتشف العملاء الذين جندتهم إسرائيل وربما كانوا وراء ما حدث. قررت الاستخبارات الإسرائيلية إنشاء شركة وهمية تبدو وكأنها منتجة لأجهزة النداءات اللاسلكية. كونت شركة «بى إيه سى» للاستشارات فى المجر وادعت أنها تمتلك رخصة إنتاج أجهزة البيجر نيابة عن شركة «جولد أبولو» التايوانية لكن الشركة كانت واجهة إسرائيلية تعمل من ورائها أجهزة استخباراتها. وحتى تخفى الشركة الإسرائيلية هويتها بدت وكأنها منبثقة من شركتين صوريتين أخريين على الأقل. وبات مؤكدًا أن من يصنع أجهزة الاستدعاء ويبيعها إلى حزب الله هم ضباط مخابرات إسرائيليون. والمؤكد أن إسرائيل تطورت تكنولوجيا فى تصنيع أجهزة المراقبة والحماية الإلكترونية وتصدر منها إلى الغرب والعرب ما قيمته ثلاثة مليارات دولار سنويا. تعاملت شركة «بى إيه سى» مع زبائن من دول متعددة ولكن الزبون الأهم بالنسبة إليها كان حزب الله. بالقطع فى العالم مئات الشركات تنتج أجهزة البيجر فلم اتجه حزب الله إليها؟ ولم تعامل معها وحدها؟ ولم فضلها على غيرها؟ كيف اقتنع «حسن نصر الله» أنها أفضل شركة يمكن أن يطمئن إليها وهو يعرف أن إسرائيل تتربص به وبحزبه؟ ألم يتحر عن الشركة قبل التعاقد معها؟ هل جندت إسرائيل قياديا فى الحزب يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات أو على الأقل الإيحاء بها أو التأثير فيها؟ إن هذا هو اللغز الصعب الذى لن يكشف عنه حزب الله غالبا. أما اللغز الذى جرى تفكيكه فهو لغز تفخيخ أجهزة الاتصالات التى قتلت وجرحت آلاف اللبنانيين فى دقيقتين على يومين. خصصت الشركة المصنعة خط إنتاج مستقلًا لتعاقدات حزب الله فقط ووضعت فى كل جهاز بطاريات ليثيوم مملوءة بمادة «بى إى تى أن» المتفجرة. بدأ شحن أجهزة البيجر إلى لبنان فى صيف ٢٠٢٢ بكميات صغيرة محدودة خشية أن يكتشف ما فيها. توقعت الاستخبارات الإسرائيلية أن يقوم خبراء التكنولوجيا فى الحزب بفحص الأجهزة فلم تبعث سوى القليل منها. وما إن اطمأنت إلى أن لا أحد أدى ما عليه فى حزب الله حتى توالت شحنات الأجهزة بكميات كبيرة وصلت فى النهاية إلى أربعة آلاف جهاز بيجر وألف جهاز لاسلكى ووزعت على ضباط وأطباء وقيادات الحزب. ويتكرر السؤال الصعب من جديد: لم تجاهل خبراء التكنولوجيا فى الحزب فحص الأجهزة؟ أليس فحص الأجهزة عملية فى الحزب روتينية قبل استخدامها؟ ألم يفكر واحد منهم فى فتح الجهاز ليعرف ما فيه من مكونات لتحديد العيوب واحتمال الأعطال على الأقل؟ أم أن هناك عميلًا آخر لعب لصالح إسرائيل؟ اقتنع حزب الله بأن هذه الأجهزة إجراء وقائى من التجسس ولكن فى إسرائيل تعامل معها ضباط الاستخبارات على أنها قنابل موقوتة يكفى الضغط على الزر فى الوقت المحدد ليحدث الانفجار. تصنف هذه الجريمة ضمن جرائم الحرب السيبرانية. الحرب السيبرانية تعنى استخدام الحواسب عبر الإنترنت فى مهاجمة الأعداء باختراق مواقعهم أو حواسبهم أو هواتفهم لتدميرها أو لسرقة ما عليها من ملفات ومعلومات أو لتوجيه ضربات تخريبية تضر بمؤسسات حيوية. لقد دمر الهاكرز فى كوريا الشمالية ملفات شركة «سونى بيكتشر» الأمريكية عقابا على سخريتها من حاكمها «كيم جونج أون» فى فيلم «ذا إنترفيو» الذى أنتجته الشركة. خسرت الشركة مئات الملايين من الدولارات فى دقائق معدودة. كانت أولى العمليات السيبرانية فى عام ٢٠٠٧. فى ذلك العام قررت حكومة إستوانيا نقل النصب التذكارى للحرب السوفيتية بعد أن انفصلت عن الاتحاد السوفيتى ولكنها وجدت نفسها فجأة تحت هجوم سيبرانى أدى إلى انهيار البنوك والخدمات العامة. بعد عشرين سنة تعرضت أوكرانيا إلى هجمات إلكترونية أصابت ١٠ شركات بلغت أضرارها ١١ مليار دولار. وفى عام ٢٠٢٠ كشفت الولايات المتحدة عن حملة قرصنة ضخمة اخترقت شركة «سولار ويندز» المتخصصة فى البرمجيات. حصل المهاجمون على بيانات حكومية استخدموها فى الهجوم على مؤسسات تخضع لحماية الأمن القومى. تعرضت الشركة للسخرية بعد اختراقها. «إنها لم تستطع حماية نفسها فكيف ستحمى غيرها فى أمريكا وغيرها»؟ فى العام نفسه تعرض البرلمان النرويجى لهجوم سيبرانى على نظام البريد الإلكترونى الخاص بالنواب والوزراء والوثائق المحفوظة فى الملفات. حوالى ٦٨٪ من الدول تعرضت إلى هجوم سيبرانى. أسست الولايات المتحدة «القيادة الإلكترونية الأمريكية» التى تحمل اسم «يو إس سايبر كوماند» أو «القيادة السيبرانية الأمريكية». ومشت الدول الكبرى وراءها. وبدأ الحديث يتزايد يوما بعد يوم عن الأمن السيبرانى. أعلنت جوجل أنها تنفق على الأمن السيبرانى ١٣٤ مليار دولار سنويا. وأعلنت الحكومة الفيدرالية الأمريكية أنها مستعدة لتأمين الانتخابات الرئاسية القادمة ضد الهجمات السيبرانية مهما كلفها ذلك. سبق أن اعترفت أن الانتخابات الرئاسية السابقة تعرضت لاختراقات من الهاكرز. ودخلت عصابات مبتزة على الخط وخيرت كثيرًا من المنشآت والشركات والمؤسسات والحكومات «يا الدفع يا التدمير». وأغلب هذه العصابات تعمل لصالح دول لا تفصح عن تورطها. لكن ما فعلته إسرائيل فى لبنان يحتاج إلى انتباه. الدماء التى سالت على أجهزة البيجر يجب أن نتوقف عندها طويلا ليس من باب التعاطف مع الضحايا فقط وإنما من باب الاستفادة منها أيضا. كيف نستفيد مما حدث؟ المؤكد أن كثيرًا من المؤسسات والحكومات العربية اشترت أجهزة إلكترونية من شركات غربية دون أن تشك أنها يمكن أن تكون غطاء لمخابرات إسرائيلية أو مخابرات دولة غربية أو شرقية أو آسيوية. لم لا نعيد فحص هذه الأجهزة؟ لم لا نفتش فى حقيقة الشركات التى نتعامل معها حتى نطمئن إليها؟ إنه درس مكتوب بحروف من الدم حتى لا ينفجر المزيد من الدم. يجب أن لا نتجاهل ما حدث. جرس الحصة لم يدق بعد. لم تجاهل خبراء التكنولوجيا فى الحزب فحص الأجهزة قبل استخدامها هذه المرة؟ هل تراجع الحكومات والمؤسسات العربية الأجهزة التى اشترتها قبل أن تنفجر فى وجهها؟
مشاركة :