مسرحية «غصة عبور»، التي عُرضت ضمن مهرجان المسرحي الخليجي الـ 14 على مسرح جامعة الأميرة نورة بالرياض، تبرز كأحد الأعمال الكويتية التي تستند إلى أساليب المسرح المعاصر، مع توظيف واضح لأسلوب التغريب الذي طوره المسرحي الألماني برتولت بريخت في حقبة الثلاثينيات الميلادية. هذه المسرحية تستخدم الصورة البصرية بشكل مبتكر من خلال مجموعة أشخاص (متنوعون) يقفون على جسر مغلق أمامهم من جميع الاتجاهات، يقوده شرطي المرور بكل حزم، حيث يجدون أنفسهم غير قادرين على التقدم أو العودة. هذا الرمز البصري للجسر المغلق يعكس حالة الجمود أو الشلل الذي يمر به الإنسان، وباعتبار المسرحية كويتية، فقد يحيل إلى الإنسان الكويتي الذي توقف به الزمن، ما حدا بالقيادة السياسية الجديدة لأن تعيد إصلاح أوضاع الإنسان الكويتي بكل حزم وشفافية لمزيد من التنافسية، وإعادة الكويت إلى سابق عهدها درة الخليج. تستمد «غصة عبور» التي كتبتها / تغريد الداود، قوتها من الواقع المتأزم، الذي يقوم على حكايات ذاتية للأبطال، كل واحد منهم يعرض مشكلاته الفردية ويسقطها على الواقع المحيط. هذه الشخصيات تمثل نماذج بشرية متنوعة تعاني من ضغوط المجتمع، والتقاليد المهترئة، والسياسات العقيمة التي تُشعرهم بالعجز عن التقدم أو إيجاد حلول لمشاكلهم. هذه الحكايات تعكس عمق الإحباط الذي يشعر به الإنسان، حيث يتم تحويل مشاعر (الغصة) إلى شعور جماعي بالعجز. بينما الصورة البصرية التي صنعها المخرج/ محمد الأنصاري التي تمثل الجسر المغلق، الذي يعزل الشخصيات عن التقدم أو التراجع، تلعب دورًا محوريًا في إيصال المعنى العلاماتي للمسرحية. هذا الجسر يمكن اعتباره علامة للانسداد التاريخي الذي يجد الأفراد أنفسهم فيه غير قادرين على تحقيق أحلامهم أو حتى التراجع عن الخيارات التي فرضت عليهم. بينما استخدام الجسر كأرضية متحركة دائمة بمن عليها (لا تفضي إلى مخرج) وهذا يعزز من الإحساس بالغصة، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرة الناس على تغيير واقعهم.. واحد من الجوانب المتميزة في المسرحية هو توظيفها لمفهوم التغريب، فعلى مستوى الملابس نجدها تميل إلى الدهشة والجمال، فيها مسحة (بؤس) ذات ألوان قاتمة، مع مناديل حمراء كسرت قتامة الألوان الرمادية، والزيتية، ومع ذلك بدا الممثلون مجتمعين بهذه الملابس (كلوحة تشكيلية) تعبر عن الانفصال عن الزمن والمكان المحدد، مما يخلق شعورًا بالترقب والمتابعة لدى الجمهور ويحثهم على التفكير الناقد في القضايا المطروحة التي قدمتها المسرحية متراوحة بين الجد والهزل، والرقص والغناء، وفي أحايين يكسرون (تقمص الشخصية) ويشعرون المتفرجين بأنهم لا يمثلون، إنما يتحاورون فحسب، وذلك حين حذر الشرطي المرأة التي تحمل ولدها من الابتعاد عن حافة الجسر قائلا: « فربما تسقطين»، ردت عليه وقال: في العلوم أو الرياضيات؟ مع ضحكة ساخرة. هذا المشهد يمكن عده جزءًا من تقنية بريخت المعروفة باسم «كسر الحاجز الرابع»، لتلاقيها بهذا (الأفيه) مع الجمهور ما جعلهم يضحكون ويتلاحمون مع المشهد والممثلين وكأنهم منهم، وليست لحظة إيهامية/درامية لعالم متخيل. حيث يهدف العرض إلى إبعاد الجمهور عن الاندماج العاطفي مع الشخصيات ليدفعهم إلى التفكير بعقلانية حول القضايا التي تطرحها المسرحية. عبر منهج بريخت، «غصة عبور» تتوسل إيقاظ عقل الحضور وتحفيزهم على التفكير، من غير أن تبحث عن تقديم حلول معلبة، بل تفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الأسئلة حول قدرة الناس على مواجهة عوائق المجتمع والتغلب عليها، من خلال شخصيات تظهر كلها مغرقة في الحوارية طوال العرض، لتكشف ما يعيشه كل فرد من صراع داخلي وخارجي مع القوى المحيطة به التي بدت غير واضحة المعالم، سواء كانت تقاليد اجتماعية، قوى اقتصادية، أو نظاما سياسيا. يظهر الأداء التمثيلي في «غصة عبور» بطريقة تعتمد على كسر الجدار الرابع بين الممثلين والجمهور وبدا الجميع بأداء احترافي وتمثيل أكاديمي متقن غير كثيراً من الصورة النمطية للمسرح الكويتي التجاري. الشخصيات كما قدمتها رؤية مخرج أكاديمي متمكن، قدمتها لا تسعى إلى الانغماس في الدور بقدر ما تسعى إلى تقديم معانٍ ودلالات واضحة من خلال السرد الحواري الذاتي والبيني. يتيح ذلك للجمهور فرصة للتفكير في معاني الحوار والأحداث بشكل نقدي. في حين جاء تشكيل المجاميع في تكوينات مستمرة، وتوظيف عناصر السينوغرافيا بملامحها البسيطة والعناصر العلاماتية التي تخدم فكرة الجمود والاغتراب، مثل شرطي المرور الذي يعيق حركة الناس العالقين على الجسر أكثر مما هم عالقون. «غصة عبور» تنجح في تقديم تجربة مسرحية رائعة نالت على إثرها جائزة (أفضل عرض) في المهرجان المسرحي الخليجي14 التي نظمته هيئة المسرح والفنون الأدائية، وبإشراف من اللجنة الدائمة للفرق المسرحية في دول مجلس التعاون الخليجي لدول مجلس التعاون.
مشاركة :