دكت الحصون، والقلاع المؤمنة بالرجال والعتاد. وتحولت المباني الشاهقة إلى غبار متصاعد إلى السماء. ومع الرماد سافرت أرواح للأعلى أيضا وبلا عودة، لم يتبق منها إلا ذكرها وتاريخها، بعيدا عن كونه أبيض أم أسود، وذا رائحة طيبة، أو مقززة كالتي تخلفها الدماء. الأنباء القادمة من لبنان ساخنة، تشي بأن لا تراجع عن كسر العظام. يبدو أن الأعداء لن يتراجعوا عن إشعال النار بأنفسهم، وهنا لا بد من ضحايا تحتويها فاتورة الحروب. وفي نهاية المطاف هناك منتصر ومهزوم، كما هي معادلة الحرب الصفرية، التي تعتمد على مفهوم ما يكسبه الأول يجب أن يخسره الثاني والعكس. في حارة حريك جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، أحد أهم معاقل ميليشيا، كان الموعد الذي خرج بعنوان عريض أشغل الدنيا ومن عليها، هو تنفيذ الهجوم أو الضربة الأقوى منذ اندلاع مواجهة أكتوبر التي أشعلتها حركة حماس بوجه إسرائيل. وبعيدا عن قوة الضربة، فتلك العملية تكتسب أهمية قصوى نتيجة ثقل من تم القضاء عليهم، وعلى رأسهم زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصر الله، بالإضافة إلى عدد من قادة فيلق القدس الإيراني. السؤال، هل كانت تصفية حسن نصر الله واردة؟ برأيي نعم، وذلك اتضح من خلال تسلسل قتل قادة ذوي أهمية قصوى في الحزب بوقت سابق، وهذا بطبيعة الحال يندرج فيما تجوز تسميته في اللغة العسكرية "بنك أهداف"، للجيش الإسرائيلي. والحقيقة، فإن نبأ مقتل نصر الله كان واضحا قبل الإعلان عنه، وهذا يمكن استنتاجه من حالة الإرباك التي أصابت عدة عواصم، ما هي؟ واشنطن وتل أبيب وبيروت. كيف؟ أولا: فالموقف القادم من الولايات المتحدة الأمريكية، وتسريبها أنباء حول عدم علمها في العملية الضخمة، التي استهدفت فيها طائرات سلاح الجو الإسرائيلي ما قيل إنه تجمع لقادة حزب الله، على رأسهم زعيم ميليشيا الحزب حسن نصر الله ونائبه، مثير ومن شأنه لفت الانتباه لرفض واشنطن التورط في أي حرب قد تطرأ في المنطقة، ومن ناحية أخرى يكشف عما يدور من حالة عناد وراء الكواليس، بين الإدارة الأمريكية وحكومة بنيامين نتنياهو. ثانيا: إصرار تل أبيب على وضع واشنطن في صورة العملية، يشي برغبة إسرائيلية لجرها في أي حرب قد تطرأ بالمنطقة رغما عنها. ثالثا: الصمت المطبق في بيروت. وهذا له أسبابه، على رأسها الخوف من سلاح حزب الله، الذي قد يوجه لمن يجرؤ على استباق الأحداث، ولا سيما أنها ذات ارتباط في الرأس الأول بقيادة الميليشيا. وها قد حدث ما حدث؛ إذن ما المنتظر خلال قادم الأيام؟ أعتقد أن حالة من الهرج والمرج ستسود في أوساط الميليشيا الطائفية الشيعية في المنطقة، والتي يمكن أن تطال نيرانها المصالح الإسرائيلية و الأمريكية على حد سواء. وفي مثل هذه الأحداث يجب النظر إلى المشهد بشكله الكلي، وهنا يمكن القول إنه بحجم الجنون الذي ستصاب به بعض العواصم، نتيجة مصرع نصر الله، بقدر ما تعي واشنطن وتل أبيب أن زعيم حزب الله ليس كقائد حماس إسماعيل هنية، الذي انهيت حياته في عقر دار فيلق القدس الإيراني. لماذا؟ لأن حسن ليس إسماعيل، وحزب الله "ربيب طهران" لا يشبه حركة حماس. فالأول تم تأسيسه لأهداف عقائدية واستراتيجية. أما الثاني فتم استخدام قضيته لتحقيق بعض من مصالح المشروع الكبير. ناهيك عن العامل الطائفي الذي يلعب دورا هاما في التعاطي مع هذه القضية. السؤال، هل زوال نصر الله تعني نهاية الحزب؟ الجواب: لا، صحيح أن خروج الرجل من المعادلة الحزبية له أضرار معنوية وعملياتية، لكن ذلك لا يعني زوال الحزب عن الحياة السياسية، ومن يرى غير ذلك فهو واهم. والأهم من التفكير بالماضي أن تتجه الحكومة اللبنانية إلى استعادة الدولة، فيما يجب أن تنبري الأوساط والحواضن الشعبية لحزب الله، للتخلي عن منهجية العنف والبطش والقتل وإزهاق الأرواح بالسلاح السائب، فهي فكرة غير صائبة من أصلها، وآن لها أن تتبخر. فالعودة لصوت العقل ليست خطوة للوراء، ولا سيما أن عوائد مشروع المقاومة المزعومة في لبنان، لا توازي آلاف الأرواح التي نفقت تنفيذا لأجندات الخارج، باعتباره مشروعا غير متكافئ لا من ناحية القوة النارية، ولا العسكرية، ولا السياسية. وقبل ذلك يجب عدم التعلق بما تخفيه الأيام من أسرار غامضة حول الاختراقات التي لحقت بجسد حزب الله، وتمخضت عن أحداث دراماتيكية، بدأت بانكشاف اجتماعات قادته، وبلغت حتى تصفية أسماء لها وزنها في صفوف الحزب. إن الحل الوحيد للبنانيين جميعا، هو العودة لحضن الوطن والابتعاد عن التشظي والفرقة، والخيارات واضحة، إما الإطار القانوني للدولة، أو الفوضى العارمة. فالبناء والتعمير والمشاركة في تنمية الدولة أهم بكثير من المشاريع السياسية الحزبية. يفترض الاعتبار من فكرة حزب الله، التي لم تعد إلا بالقتل والتشريد منذ عشرات السنين، وصولا إلى مقتل زعيمه حسن نصر الله، الذي كاد أن يهدم المعبد على رؤوس الجميع.. ودون استثناء.
مشاركة :