هجم الخط الأسود -الذي تحول لاحقا إلى خط أبيض للتخفيف من قبحه ربما- على كل جميل في وجداننا، قبل هجومه على الصورة الرمزية للإنسان والحيوان معا في مناهج القراءة والكتابة والرسم مما أتذكره ولا يغيب عن معظم الأصدقاء من مجايلي أيام الدراسة، تلك الفترة التي التحقت فيها بفريقي المسرح والأشبال في المرحلة الابتدائية، وألذ ما كان يستهوينا من حصص الرسم والألوان والرياضة، إذ عنونت تلك المرحلة لتركيبة ذهنيتنا، وغرست في وجداننا مفاهيم مطلقة لحب الحياة وألوانها، وشكلت المنطلقات الأولى لطريقة تفكيرنا ورؤيتنا لها بلا حدود. وأتذكر كيف أن المناهج بلا استثناء خلت من فكرة الإقصاء ومفهوم الفصل بين الجنسين، في مناهج القراءة والكتابة التي كانت تعج بالصور الجميلة المعبرة عن مجتمع واحد، لا تصنيف فيه لذكر وأنثى، ولا نوايا مسبقة لترتيبات فكرية بعينها، إذ كان يجتمع في الصفحة الواحدة صورة المرأة والرجل بتعليقات "ثريا تقبل طفلها" و"بشار يعلم ولده". وكنا نجلس على مقاعدنا في حصة الفنية، لنراقب باهتمام بالغ معلمها الأستاذ المصري سالم الإمام، ذلك الرسام الفنان الذي طبع في ذائقتنا محبة الفن والإبداع والرسم وألوان التفكير، حتى لم ينسه أحد من طلابه حتى اليوم، كان أستاذنا يرسم لوحاته الجميلة للملك عبدالعزيز والملك فيصل والملك خالد -رحمة الله عليهم جميعا- بإبداع عظيم جدا، لم تغادرني تفاصيلها الرائعة وهي معلقة في رواق المدرسة، أشاهدها كل يوم دراسي، وقد كانت ملهمة لكل جيلي في مدرستنا. ثم فجأة هجم الخط الأسود -الذي تحول لاحقا إلى خط أبيض للتخفيف من قبحه ربما- على كل جميل في وجداننا، قبل هجومه على الصورة الرمزية للإنسان والحيوان معا في مناهج القراءة والكتابة والرسم، كان ذلك الخط يشكل بداية الانتكاسة في ذهنية التعليم التقليدي، ومعه تشكلت عقليات جيل بأكمله دون أن يعي كارثية ما يتلقونه، ولا يعلمون عن مستقبله في تفاصيل حياتهم لاحقا. ومن تلك اللحظة تحديدا لم تكن أيامنا التالية في الدراسة مثالية وخالية من المنغصات والمنغصين والحكايات الرمادية على اختلافها، ومعها اختلفت علينا المفاهيم واختلطت الرؤى، فارتبك منا من ارتبك، ونجا من نجا. أتذكر أن مشرف المسرح والأشبال كان يستأذن لنا من بعض الحصص، لنتدرب على أداء أدورنا في مسرحية آخر العام، أو منافسات المدارس لفريق الأشبال، وفي اليوم التالي لم يكن يعاقبنا ويؤنبنا سوى مدرسي حصص الدين واللغة العربية! حتى وصلنا إلى مرحلة التذمر قبل وبعد حصصهما، وهذا نتاج طبيعي لسوء تقدير ضرورة الآخر، وفهم دوره في التربية والتعليم والتهذيب. المفارقة أننا لم نكن نتساءل لماذا هما فقط؟ بقدر رعبنا الذي كان يسبق العقاب! تلك كانت أياما صنعت جزءا كبيرا من مسار تفكيرنا وتشكيل عقلياتنا، حتى استحوذت على يومياتنا، وقد كان بالإمكان لو تجنبناها أن نصنع زمنا مختلفا ومجتمعات مختلفة، أكثر إيجابية وفارقا على صعيد التفكير والفكر الإيجابيين، تماما كالذي نحاول صنعه الآن من خلال طرح الأفكار والرؤى من الممكنات لصياغة المستقبل، فالتحول الفكري يمكن أن يمنحنا صيغا جديدة لبناء عقلية مختلفة، تفكر في الجميع وليس الفئة، ليكون أسلوب حياة، من خلاله تتحقق كيانات المستقبل، وخارج هذا المفهوم تبدو الخيارات مترنحة، حتى لا نعيد التجربة ونظل حبيسي الدوران في الدائرة المغلقة، وحتى لا تشوه عقولنا خطوط سوداء جديدة.
مشاركة :