عادة، نحن نقرأ روايات الروايات البوليسية سعيًا لاكتشاف القاتل، الجاني، الوجه المظلم الذي يختبئ وراء كل المصائب الواقعة في الرواية، لكن أن ترى كيف حدثت الجريمة منذ البداية، أن تعاين القاتل وهو يخنق ضحيته، ثم تراقبه يخفي آثار جرمه لهو شيء آخر، لكن ليس هذا أغرب ما في رواية الكاتب الياباني كيغو هاغاشينو بل الطريقة التي جعلنا بها نراقب الأحداث، فكما جعلك شاهدًا على الجريمة ومحاولات مرتكبها للهروب من العدالة، كما نصبك أيضًا شاهدًا على تحقيقات الشرطة وخطوات سيرها في استجواب الشهود، وتتبع الدلائل والتخبط في العراقيل التي يضعها المجرم أمامهم، والمجرم إذ يفعل هذا لا يفعله انتقامًا للشرطة، لا يفعله عن مكر ودهاء خالصيْن، لا يفعله وهو يبتسم ويقهقه في سره، بل هو يفعله ببساطة لأنه مضطر! يفعله وهو خائف ومتوتر وحريص ومترقب لكل وأدنى الإشارات، وبما أن الجريمة التي ارتُكبت كانت عفوًا لا عن سابق نية ولا ترتيب، وبما أن الضحية هو حثالة استراح الناس من شرها، وبما أن المجرم حظي بمساعدة من عبقري في الرياضيات، في حين حظيت الشرطة بمساعدة من زميله القديم عبقري الفيزياء، فلا تكاد تدري مع أي الجانبين تقف، وأي الفريقين تشجع، ولا تستطيع تحديد مشاعرك، أهي الخوف من أن يُقبض عليك متلبسًا ولا ذنب لك سوى أن ساعدت سيدة في ورطة ولا تراها تستحق أن تغيب وراء قضبان السجن بسببها، أم هو الإصرار الذي يتحلى به محققو الشرطة والرغبة في تخطي العراقيل التي يضعها في طريقهم أستاذ الرياضيات العتيق. أكثر ما أعجبني في هذه الرواية هي المنطقية والترابط المحكم والتسلسل البسيط الذي تمضي به الأحداث، وعلى النقيض تمامًا من روايات هاروكي موراكامي الأشهر والتي تشعرك بتوهان، وتملؤك بالأوهام حتى تخرج منها دائخًا برأس موجوع، وأنت لم تدر للحكاية هدفًا ولا مغزى، فهذه الرواية هنا واضحة للغاية كشمس يوليو، كل شيء بسيط منطقي حسن السبك، تمامًا مثل معادلات الرياضيات، مجموع الواحديْن اثنان! و س وص لهما قيمة واحدة محددة لا تتغير. ياسوكو تقتل طليقها السابق في شقتها، لم يكن الأمر مدبرًا لكنه وقع فحسب، كان الرجل إزعاجًا وثقالة تمشي على قدمين، يترصد لها في كل محل عمل جديد وكل بناية جديدة تسكنها هربًا منه، ويطالبها دومًا بمزيد من المال، هي المرهقة بعبء ابنتها الوحيدة من زواج قديم سابق، وعبء الإنفاق على امرأتين لا أحد لهما في هذا العالم الواسع، وحين تقرر ابنتها أن تضربه بسخط في تلك الليلة ينقض عليها كذئب مسعور، فما كان من الأم إلا أن خنقته، وبينما تحاول لملمة البلبلة التي صارت يدق عليها الباب جارها الغامض أستاذ الرياضيات الذي لا يكاد أحدهم يسمع صوته إشيغامي، ينظر للغرفة وإلى الطاولة الكبيرة التي تخفي الجثة نظرة واحدة ثم يغادر وتتنفس المرأة الصعداء ظنًا منها أنها قد نَجَتْ، حتى يفاجئها صوته في الهاتف، قال ببساطة: سيدة ياسوكو لن تستطيعي التخلص من الجثة وحدك! وبينما يحكي المفتش المسؤول عن القضية لصديقه القديم عبقري الفيزياء يرد اسم إيشاغامي في أثناء حديثهما فيتذكر الرجل الطالب القديم الغارق في معادلات الرياضيات والإنسان الوحيد الذي استطاع فهم ولعه بالفيزياء والذي لم يره منذ عشرين عامًا، هكذا تتحول القضية إلى صدام بين هذيْن العقليْن الجباريْن، جار القاتلة وصديق الشرطي، عبقري الرياضيات ونابغة الفيزياء! الأمر الوحيد الذي أستطيع أن أخبرك به صديقي القارئ بكل يقين وثقة هو: هو أن أَملكَ لن يخيب ألبتة! والخدعة، السر، حجر الأساس الذي بُنيت عليه الحيلة بكاملها لن يخطر لك على بالٍ قط! وهو بعد ذلك شديد المنطقية والوضوح والسهولة، وحزين لأبعد حد. لقد أبدع الكاتب، هي ذي رواية بوليسية من الدرجة الأولى، لا تحتوي شخصيات أجاثا كريستي المائة والتعقيدات التي تُديرها فيما بينهم، لا تحمل في المقابل لغزًا سخيفًا أو رتابة مملة في التحقيق، لا بل أجرؤ على القول إنها موجزة، مثيرة للغاية، واضحة، وتسير مباشرة إلى الهدف دون التخبط في منعطفات جانبية، كما هي رياضة الأرقام تمامًا.
مشاركة :