كلٌّ منا يفسر التراجع أو تردي الأحوال على طريقته، ومذهبي في هذا الأمر يعتمد على مؤشر هام متى ما تحرك للأسفل أدركت أن الأمور أخذت في الاتجاه نحو الأسوأ أو المجهول في أحسن الأحوال، ذلك المؤشر هو (الغرق في البدهيات) وأعني فيه أن ما كان سائداً بين الناس من نصوص أو معانٍ أو إجراءات كان يُعمل بها بشكل روتيني، اختفى أو تم دفنه وعاد أعقابه من أبناء وأحفاد في رحلة البحث وإعادة اكتشاف العجلة من جديد. أحد الظرفاء قال لي وهو في لحظة إحباط شديدة بعد تعطل إجراء معاملة روتينية له في لجنة خبراء الفطور الصباحي في إحدى الجهات الحكومية، صدقني: «سيأتي يوم لن تجد فيه من يعرف تخليص إجراءات إجازة دورية»، سألته «إجازة دورية متأكد؟ أم تقصد إجازة حج أو وضع لأنها لا تحصل كثيراً»، فرد عليّ بحنق: «أنا أعرف ما قلته لك إجازة دورية لأن هذا الإفراط في استعمال الحد الأدنى من الطاقة والعقل نهايته الطبيعية توقف دورة العمل والحياة في أي مؤسسة». ما سبق رغم أهميته مرتبط بموضوعنا من ناحية العمل الروتيني فقط، إلا أن مؤشري وهو (الغرق في البدهيات) مرتبط بالمفاهيم والمصطلحات والقيم التي تعكرت خطوطها وتداخلت، وبعضها استُبدل ببعضها الآخر وصار حبراً على ورق، أبدأ بالأسرة المكونة من أب وأم وأبناء، فنحن حتى الآن لا نعاني من وضوح تلك الصورة، لكننا كمجتمع شرقي بدأنا نشعر بضغط متزايد من جميع الاتجاهات يريد فرض صور جديدة للأسرة تخلو من الأم أو الأب، تلك الصورة بدأت بالتسلل إلى أطفالنا من كلاسيكيات الشخصيات الكرتونية التي رضخت شركاتها المالية لسطوة موجات العته الأخلاقي، لتقدم لنا نسخا جديدة من شخصيات عشنا معها أجمل أيام طفولتنا بصورة مشوهة تم فيها حشر أشياء تكرس حالة التوهان في بدهيات الفطرة السليمة. ونال الكبار نصيبهم من خلال منصة (نتفليكس) التي لا يكاد يفلت منها عمل يخلو من النماذج المقحمة من المثلية والشواذ في كل شيء، والمزعج أن ذلك السلوك جر معه أعرق الشركات المنتجة للأفلام وتزرع ولو بمشاهد سريعة لمحات من نماذج شاذة في سلسلة أفلام خيال علمي مثل حرب النجوم. وإذا كان الجدل طال الأسرة وشكلها الطبيعي منذ فجر التاريخ، فما الذي يمكن قوله عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد المفتوح؟ وتلك جميعها مصطلحات تعتبر حديثة في التاريخ البشري، لقد تعرضت للكثير من الهزات والضربات قبل الحرب العالمية الثانية، ثم أخذت بالتطور المناكف للمعسكر الشيوعي، ثم انفتحت أبواب العالم أمامها أوائل التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، فلم يفعل المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية سوى تقديم كل أسباب الانقلاب عليه وسقوطه في يد القوى اليمينية المتطرفة التي نجحت أحزابه في الوصول إلى مراكز السلطة أو المنافسة الضاغطة عليها، وها هو نموذج ترامب يصعد ويعم العالم، في البداية حطم صورة حزب عريق مثل الحزب الجمهوري الذي عجز أن يوقفه أول مرة ووصل، ثم فشل في منعه من كسر قاعدة تاريخية هي أن من يخسر لا يترشح ثانية ولكن ما العمل؟ القاعدة تبدلت مفاهيمها والعالم الذي يغرق في الممارسة الديموقراطية أصابه الجنون. في الختام كانت الكثير من النظم الشمولية تعيش في قلق دائم بوجود الأنظمة الديموقراطية خشية أن تطولها موجات التحول الديموقراطي مثل التي وقعت في أوروبا الشرقية ومناطق أخرى في العالم، لذلك حاولت قدر الإمكان الالتفاف على تلك الضغوط وإيجاد صيغ تفاهم وتعايش تحاكي فيها لغة المصالح الرأسمالية، وشراء الوقت قدر المستطاع، اليوم لم تعد تلك الأنظمة تعاني أي ضغط على قاعدة «لا تعايرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك»، بل إن بعضها ولسخرية القدر أصبح يعاير أعرق الديموقراطيات بسلوكها العنصري تجاه المهاجرين وبمعاييرها المزدوجة في تعاملها مع القضايا الدولية.
مشاركة :