على وقع أصوات الانفجارات التي تدوي في كل مكان شمال قطاع غزة، تسارعت خطى أحمد عسلية تارة، فيما ركض تارة أخرى لساعات مع أطفاله الصغار، بينما وضع على ظهره جزءا من أمتعته هربا من القصف الإسرائيلي للمنطقة التي يقطن فيها. وقال عسلية وهو أب لخمسة أبناء لوكالة أنباء ((شينخوا)) "لقد كان الموت قريبا منا، وتمكنا من الهرب بأعجوبة تحت القصف وزخات الرصاص، فلا أريد أن أرى جثث أطفالي أمامي، كما حدث في عمليات عسكرية إسرائيلية سابقة في قطاع غزة". ويواصل الجيش الإسرائيلي لليوم العاشر على التوالي عمليته البرية في مخيم جباليا، الذي يعتبر من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023. وقالت مصادر فلسطينية إن الجيش الإسرائيلي عزل المناطق الشمالية بشكل تام عن مدينة غزة وحاصر عشرات الآلاف من العائلات دون طعام ولا مياه ولا أدوية، بينما يستهدف كل من يتحرك بالشوارع. ويقول عسلية الذي بدا مرهقا ومتعبا ويتصبب العرق من وجهه لوكالة أنباء ((شينخوا)) "الموت منتشر في كل مكان في جباليا ولا أحد يمكنه حمايتنا فنحن جميعا سنموت إما سريعا من القصف أو ببطء بسبب الجوع". -- الهرب من القتل إلى الموت البطيء وعلى الرغم من نجاته من القصف، إلا أن عسلية بدأ صراعا جديدا من أجل البقاء وعائلته على قيد الحياة في ظل عدم توفر الطعام والمياه والمأوى وحتى المال ليشتري مستلزماته. ويعيش عسلية الآن مع عائلته في أحد أزقة مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، حيث يفترشون الأرض دون سقف يؤويهم. وينهض عسلية وعائلته فزعين بسبب أصوات الانفجارات المتكررة جراء الغارات الإسرائيلية في غزة وشمال القطاع. ويقول عسلية "هل تعتقدون بأن هذه حياة التي نعيشها؟ أطفالي لم يأكلوا سوى بضع لقيمات منذ أسبوع، كيف يمكنهم العيش؟" وهذه ليست المرة الأولى التي يجبر عسلية على النزوح، حيث أجبر على إخلاء منزله عدة مرات منذ بدء الحرب. ويستذكر "لقد اضطررت للعيش في خيمة وفي مدرسة إيواء وفي منازل مهجورة وشبه مدمرة وعند أزقة الشوارع وعلى شاطئ البحر، في كل رحلة نزوح كنت أواجه الموت وما زال الخطر موجودا ولا يتوقف أبدا". ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة لسمية أبو وردة التي اضطرت للنزوح مع أطفالها السبعة سيرا على الأقدام من مخيم جباليا للاجئين قبل سبعة أشهر بعدما قتل زوجها في أحد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مربعات سكنية في شمال غزة للوصول إلى المناطق الجنوبية في القطاع. وتقول سمية أبو وردة لوكالة أنباء ((شينخوا)) "إن أكثر شيء أرعبني في رحلة النزوح هو السباق مع الموت من جهة والصدمة جراء حجم الدمار الذي لحق بكل مناحي الحياة في قطاع غزة". وتضيف "لقد كنت أمعن النظر إلى الشوارع وأحاول معرفتها ولكنني فشلت فيما يواصل الطيران قصف كل شيء أمام عيني وأعين أطفالي وأعين المئات من العائلات النازحة، لقد كانت رحلة النزوح أشبه بفيلم رعب لم أتخيله ولا حتى في كوابيس أحلامي". وعلى عكس ما كانت تأمل سمية، لم تجد الحياة سهلة في المناطق الجنوبية خاصة في ظل تكدس أكثر من مليون فلسطيني هناك وقلة الموارد الأساسية للحياة الإنسانية من مأكل ومشرب ومسكن والأهم الأمان. وتشتكي المرأة المكلومة "نحن نعيش في حصار مطبق ومعاناة يومية في ظل استمرار الهجمات ولا أعرف متى سيكون دورنا على قائمة الموت وهل سيكون بالقصف أم من الجوع والقهر نحن ندور في متاهة من الموت". -- دمار واسع النطاق ومنذ السابع من أكتوبر 2023، تشن إسرائيل حربا واسعة النطاق ضد حماس في غزة أدت إلى مقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني ودمار كبير في المنازل والبنية التحتية، وذلك بعد أن شنت حماس هجوما غير مسبوق على جنوب إسرائيل أودى، وفق السلطات الإسرائيلية، بحياة أكثر من 1200 إسرائيلي، إضافة إلى احتجاز رهائن. وقالت مصادر محلية وشهود عيان إن الجيش الإسرائيلي قام خلال اليومين الماضيين بزرع عدد من المتفجرات في منطقة الفالوجة في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة الذي يقبع تحت حصار إسرائيلي مطبق منذ أسبوعين تقريبا بهدف تفجير منازل فيها. وأضاف الشهود في اتصالات منفصلة مع وكالة أنباء ((شينخوا)) أن "الجيش الإسرائيلي يحاصر عشرات العائلات غالبية أفرادها من النساء والأطفال ولا يستطيعون التحرك من المنطقة وإنهم يواجهون خطر الموت". ومن جانبه، قال إسماعيل ثوابتة رئيس المكتب الإعلامي الحكومي التابع لحماس في غزة لوكالة أنباء ((شينخوا)) "إن الجيش الإسرائيلي دمر 150000 وحدة سكنية تدميراً كلياً، وأكثر من 80000 وحدة سكنية تدميراً بليغاً غير صالحة للسكن، كما دمر 125 جامعة ومدرسة تدميرا كليا وأكثر من 337 جامعة ومدرسة تدميرا جزئيا، فيما حرمت الحرب أكثر من 780000 طالب وطالبة من التعليم للعام الثاني على التوالي". ودمرت إسرائيل 814 مسجداً تدميراً كلياً وعشرات المساجد تدميرا جزئياً، كما دمرت 3 كنائس بشكل مباشر، وأكثر من 200 موقع أثري وتراثي، وأكثر من 35 منشأة وملعباً وصالة رياضية في محافظات قطاع غزة، بحسب البيان. وقدرت الأمم المتحدة في بيان أن التخلص من كمية الركام البالغة 40 مليون طن قد يحتاج 15 عاما وأكثر من 500 مليون دولار أمريكي، فيما قدر تقرير أصدره برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة (UNPD) في مايو 2024 أن تستغرق عملية بناء المنازل التي دمرتها الحرب في غزة حتى عام 2040. واتهم المكتب إسرائيل بأنها تسعى إلى تنفيذ "مخطط التهجير" بشكل واضح المعالم لسكان قطاع غزة من خلال جعل الجيب الساحلي غير قابل للحياة. -- مستقبل غامض ويخشى تيسير عوض نازح من مدينة غزة من غياب أفق المستقبل في ظل استمرار الحرب على قطاع غزة وعدم وجود أي بوادر لانتهائها قريبا. ويقول "على مدار عام كامل وأنا أحاول التمسك بالأمل بأن كل هذا الموت والقصف والدمار سينتهي، ولكن للأسف لم ينته شيء، أعداد الضحايا تتضاعف والقصف والقتل والتدمير مستمر ونحن لا نعرف ما الذي يجب أن نفعله كي نتخلص من كل هذه الكوارث التي فرضت علينا". ويضيف "حتى وإن توقفت الحرب كيف سنتمكن من استعادة حياتنا الطبيعية في ظل كل هذا الدمار وتوقف التعليم والصحة والإسعاف وكل مقومات الحياة الأساسية، كم من الأعوام سنقضيها في رفع الركام والأهم من ذلك كم من السنوات سنقضيها في علاج أنفسنا نفسيا؟". وقال مسؤولون فلسطينيون إن كل الجهود التي بذلها الوسطاء مصر وقطر بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية فشلت حتى الآن في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس. واتهمت حماس إسرائيل بمماطلة وإفشال كافة الجهود للتوصل إلى اتفاق، مشددا على ضرورة تقديم خطة لتنفيذ المقترح الذي قدمه الوسطاء بناء على مبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن بدلا من المزيد من جولات المفاوضات وإعطاء غطاء لإسرائيل "لمواصلة حربها على غزة. ومع ذلك، لم تتوقف اتصالات مصر وقطر مع مختلف الأطراف - خاصة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وحماس - للحفاظ على مسار المفاوضات الجارية وتجنب التصعيد، وهناك جهد مستمر حتى يصبح اتفاق الهدنة ووقف إطلاق النار واقعا على الأرض.
مشاركة :