-التقيت به بعد أن أعلن خروج «حماس» من تنظيم الإخوان رجلًا شابًا ثائرًا -صنعت إسرائيل أسطورة «السنوار» بنفسها نشرت «فيديو» يسجل اللحظات الأخيرة فى حياته لتشعر بالانتصار عليه فإذا بها تنصفه وتمجده وتخلده. اشتبك مع جنود إسرائيليين. أجبرهم على الانسحاب بإلقاء قنابل يدوية عليهم. استعانوا بدبابات لقصف المبنى الذى قاتل فيه. اخترقت جبهته رصاصة قناص من بعيد. وجاءت «مسيرة» لتجهز عليه لم يتردد فى أن يلقى عليها قطعة خشب وجدها إلى جواره. شاركت كل وحدات الجيش الإسرائيلى فى اغتياله. بدا المشهد وكأنه مأخوذ من إلياذة «هوميروس» أو ملحمة «جلجامش» أو «الشاهناما» الهندية حيث «البطل» لا يموت إلا إذا تذوق جسده طعنات الأسلحة كلها. حارب «السنوار» إلى جانب رجاله فى المواجهات المباشرة وكأنه واحد منهم وليس قائدا عليهم فكان من الطبيعى أن يستشهد فى المسافة صفر بينه وبين العدو. لم يختف فى نفق تحت الأرض ولم يتخذ من الأسرى درعا بشريا. اختار النهاية التى أرادها وكتبها بنفسه فى روايته «الشوك والقرنفل». وجدوا فى جيبه رسالة من ابنه «إبراهيم» يسأله: «متى تعود إلينا يا أبى؟». و«متى تنتهى الحرب؟». لم نعرف إجابته على السؤال. لكن المؤكد أن اغتياله سيزيد من تعسف «نتنياهو» فى إيقاف الحرب وسيضاعف من شهوة الدم التى أصابته. المؤكد أيضا أن غياب «السنوار» سيؤثر سلبا على المقاومة ولو لبعض الوقت فقد جمع معا بين القرار السياسى والقرار العسكرى وليس من السهل إيجاد بديل عاجل بنفس قوته وقدرته وصلابته وخبرته. على أن المقاومة لن تنتهى وسيخرج منها ألف رجل يواصلون القتال. هكذا أثبت تاريخها. بل إنها أيضا نبوءة «السنوار» نفسه حين سمعت منه: «بيننا وبينهم مائة حرب قادمة والقصة معهم طويلة بل هى أطول من أعمارنا». التقيت به فى غزة لتغطية محاولة الصلح المصرية بين «حماس» وفتح» ولم شملهما معا لسد الثغرات التى تنفذ منها إسرائيل لضرب القضية الفلسطينية إذ كيف تكون هناك قضية واحدة وكيانين منفصلين متصارعين؟ عبرت عن ذلك فى التقرير الصحفى الذى نشرته فى «أخبار اليوم» يوم ٧ أكتوبر ٢٠١٧ (لاحظ صدفة ٧ أكتوبر). كتبت: «لو انطبقت السماء على الأرض ما صدقت أننى سأجد نفسى فى مكتب «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسى لمنظمة «حماس» فى غزة وأمامنا قهوة وتمر ويانسون وهو يعبر بصوت هادئ عن فتح صفحة جديدة نقية مع مصر مؤكدا أن غزة لن تكون مأوى لمن يضر بأمن مصر القومى. «فى غرفة مجاورة كرر «يحيى السنوار» رئيس المكتب السياسى لحماس فى غزة المعنى نفسه بجملة أخرى: «لن تكون حماس منطلقا للشر». كانت الغرفة صغيرة متواضعة بها مكتب يجلس خلفه «السنوار» وجدرانها خالية من الصور والخرائط. اعترف بأننى لم أعطه حقه. بدا فى عينى مثل موظف فى ديوان حكومى لم يكمل الدوام أو معلم فى مدرسة ابتدائية يعانى من صخب التلاميذ أو عاطل عن عمل يبحث عن وظيفة ولو بأجر ضعيف. بدا أيضا خجولا يكاد لا يضع عينيه فى عينى محدثه. ويسهل اكتشاف تواضعه من ملابسه البسيطة غير المتجانسة التى تخاصم رباطة العنق. نموذج يصعب اكتشافه من الوهلة الأولى. أخطأت فى تقديرى كثيرا. فيما بعد أدركت أنه رجل لا يجيد طلاء وجهه بالمساحيق بل يترك الشيب يسيطر على رأسه ولحيته مما ضاعف من حدة نظراته التى فشل فى أن تكون قاسية. نحيف يكاد لا يصلب طوله وما إن يتحدث حتى يرتفع صوته وتدب فيه حيوية ممثلى المسرح. لم يقسم حياته إلى نصفين وكرسها كلها للمقاومة. لم يتحدث بنصف لسان ولم يقاتل بنصف سلاح. لم يطلب بوليصة تأمين على حياته بل انتظر الموت فى كل لحظة حتى وصف بأنه «رجل ميت يمشى على قدمين». يفنى عشقا فى ذات بلاده مثل صوفى يفنى عشقا فى ذات الله ليصبح آخر المطاف جمرة مشتعلة فى نار الحب الكبير. لم أعطه حقه يوم التقيت به. لكنه أقسم لى أنه كان وراء انفصال حماس عن تنظيم الإخوان فى عام ٢٠١٧ حتى تعود القضية إلى مصر. كان «السنوار» معترضا على سياسة «التجرؤ» على مصر التى تبنتها قيادات سابقة وجدت من يحرضها ويستغلها ويدفع لها. فى شهر رمضان (يونيو ٢٠١٧) جاء «السنوار» إلى القاهرة على رأس وفد من حماس للتفاوض بشأن المصالحة الفلسطينية التى سعت إليها مصر لكن قبل ذلك وافقت حماس على ترتيبات أمنية على الحدود فى سيناء تثبت حسن نيتها وجدية موقفها. حسب ما سمعت من «السنوار»: «جرت تسوية الأرض على الحدود المشتركة بين مصر وغزة بعرض سبعين مترا لتصبح منطقة مكشوفة خالية من المرتفعات الطبيعية التى يتوارى وراءها الإرهابيون ولتفضح كل من يحاول التسلل إلى داخل سيناء وشدت أسلاكًا شائكة بطول الحدود وركبت كاميرات تصوير عالية التقنية تأتى بالبعيد والقريب وشيدت أبراج مراقبة متعددة ترصد التحركات المتنوعة». أضاف: «أكثر من ذلك اعتقلت أعدادا من المتطرفين الذين نشك فيهم». وحسب روايته فإن أفرادا من كتائب القسام وأفرادا من أمن حماس تصدوا لمجموعة حاولت التسلل إلى سيناء فإذا بها تواجه منتحرا فجر نفسه وسقط شهيد وأصيب آخر. بدأت أصدق أن حماس غيرت موقفها من مصر. لكن خيالى السياسى لم يصل إلى ما يدور فى عقل «السنوار» تجاه إسرائيل. لم يصل تصورى للرجل الذى قضيت معه نحو الساعة إلى أنه سيحطم نظرية «الحرب الخاطفة» وسيجبر إسرائيل على القتال ما يزيد على السنة فى حالة غير مسبوقة وأنه سيحطم أسطورة «الجيش الذى لا يقهر» والاستخبارات التى تعرف أين تعاشر ملكة النحل ذكر الخلية. حدث ذلك فى عملية «طوفان الأقصى» التى انفجرت فجر يوم السبت ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وبدأ معها نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط بعد أن أفسدت مخططات كانت جاهزة للتنفيذ تمنح إسرائيل المزيد من السيطرة. بالقطع دفع الفلسطينيون ثمنا غاليا فى هذه الحرب التى ساند فيها الغرب إسرائيل بأسلحة متطورة وذخيرة لا تنفد وأموال تتدفق وأجهزة استخبارات تتنصت وأقمار صناعية ترصد وحاملات طائرات تهدد وغواصات نووية تترقب. حارب «السنوار» كل هذه الحشود ببندقية آلية ومسدس كاتم للصوت وقطع صغيرة من «الحلوى» وجدت فى جيبه وبدا أنه يعيش عليها مما أفقده الكثير من وزنه. كان يعرف أن ما كل المدن تعرف أن تقهر الموت مثل غزة. ما كل المدن مثلها تجبر الموت على أن يحترمها وينحنى لها. لكن غزة لم تعد غزة. سكب الإسرائيليون الحبر الأسود على سمائها الزرقاء. اختفت الألوان منها. نسيت اللون الأخضر والأصفر والأبيض ولم يعد أمامها إلا لون الخراب. وتحول شعبها إلى كتل من الدم والفحم. على أن كل هذه الجرائم على بشاعتها لا تستطيع تحريك نهر التاريخ بوصة واحدة عن مجراه الطبيعى. من الرماد المحترق ستخرج فلسطين جديدة مهما طال الزمن. إنها خبرة التاريخ التى تعلمناها فى الجزائر، حيث مات مليون ونصف المليون شهيد وجنوب إفريقيا التى قدمت كل يوم فى سنوات الفصل العنصرى ضحايا يصعب حسابهم فى النهاية. إن الإنسان الفلسطينى مثل إنسان فيتنام وإنسان هيروشيما سيظل واقفا على قدميه ومغروسا فى أعماق الأرض كالرمح المسنون. والدليل على ذلك «السنوار» نفسه. ترى كم «سنوار» لم ترصدهم الموساد والشاباك والشين بيت يستعدون لمواصلة الحرب اليوم أو غدا أو بعد غد؟ قال لى: بيننا وبين إسرائيل ١٠٠ حرب قادمة أخطأت فى تقدير شخصيته ولم أعطه حقه إلا بعد ٧ أكتوبر خطاب من ابنه إبراهيم: «متى تعود إلينا يا أبى؟» عاش على قطع من الحلوى واغتيل بكل أنواع الأسلحة الإسرائيلية عادل حمودة والسنوار اللحظة الأخيرة «معاريف»: لماذا يعتبر اغتيال السنوار هدية ثمينة لـ«كاملا هاريس» قبل الانتخابات؟ اعتبرت صحيفة معاريف العبرية عملية اغتيال السنوار حدثًا دراميًا فارقًا قبل أيام قليلة من الانتخابات الأمريكية، وأشارت إلى أن هذه الواقعة قد تغير من المعركة الانتخابية القادمة لمصلحة «كاملا هاريس» وترجح كفة الميزان لمصلحتها. فى تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية هناك ظاهرة معروفة باسم «مفاجأة أكتوبر»، حيث يحدث دائمًا فى هذا التوقيت حدث درامى يرجح كفة مرشح عن الآخر ويغير المعركة الانتخابية رأسًا على عقب. وخلال الانتخابات الحالية حدثت أكثر من واقعة أحدثت تحولات جديدة مثل انسحاب بايدن من المعترك الانتخابى وصعود هاريس بدلًا منه، إضافة إلى تعرض المرشح الآخر دونالد ترامب لمحاولتى اغتيال علاوة على انتصار هاريس أمامه خلال المناظرة التليفزيونية، وخسارة «جيمس والز» مرشحها الخاص لشغل منصب نائب الرئيس خلال مناظرات النواب، هذا بالطبع إلى جانب الكوارث الطبيعية والعواصف التى اندلعت خلال الأيام الماضية خلال الشهر الحالى، إلا أن اغتيال السنوار هو أكثر الأحداث القريبة للحصول على لقب مفاجأة أكتوبر لمصلحة هاريس. احتاجت الولايات المتحدة عشرة أعوام كاملة لتصفية بن لادن، أما إسرائيل فقد احتاجت سنة واحدة لتصفية السنوار، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب اهتم الإعلام الأمريكى بشكل كبير بالسنوار وحركة حماس. وقبل أيام قليلة، كانت أخبار السنوار وحماس بعيدة تماما عن الحوار السياسى والإعلامى الذى كان يتطرق لمعاناة الفلسطينيين فى غزة، وتناسى أخبار مرتكبى المذبحة والحرب تمامًا. وبعد أن أغلقت هاريس الفجوة الفارقة أمام ترامب، بل تخطتها أيضا بدا فى الأيام الأخيرة أنها فقدت هذا التقدم، خاصة داخل السبع ولايات المتأرجحة التى لا تحتوى على أغلبية سياسية جمهورية أو ديمقراطية. وخوفًا من اندلاع حرب إقليمية طلبت إدارة بايدن -هاريس من إسرائيل منع الغارات العسكرية على بيروت، وضرب المنشآت النفطية والنووية فى إيران، ردًا على وابل الصواريخ الباليستية الذى تم إطلاقه على إسرائيل فى الأول من أكتوبر. ويعنى اندلاع حرب إقليمية فى المنطقة، تقليص فرص هاريس للفوز فى الانتخابات، بينما يبدو أن اغتيال السنوار حدثًا يعزز من موقفها ويساعدها كثيرًا، لأنه يزيل العراقيل نحو التوصل إلى صفقة لتحرير الرهائن لإيقاف الحرب فى غزة. والشعور السائد فى تل أبيب وواشنطن ودول الشرق الأوسط هو أن اغتيال السنوار وبعد اغتيال نصر الله والهجمات القوية على حزب الله، قد خلق دفعة قوية لإنهاء الحرب فى إيران وتابعيها فى المنطقة. ويرغب بايدن فى إنهاء الحروب فى جميع الجبهات أولًا لكى يسهم فى حملة هاريس، وثانيًا لإضافة إنجاز لإرثه الذى سيخلفه، والحقيقة أن الجدول الزمنى لدى هاريس مشحون للغاية فلم يتبق إلا أسبوعين ونصف الأسبوع على موعد الانتخابات وسيكون أمام بايدن بضعة أشهر إضافية لاستكمال هذا العمل حتى الـ٢٠ من يناير ٢٠٢٥، وهو موعد تولى الرئيس الجديد مهام منصبه. والواقع أن كلا من بايدن وهاريس لا يثقان فى نتنياهو، يشككان فى كونه لن يسارع فى استغلال الفرصة التى تهيأت له بعد مقتل السنوار، أولا لأن المتشددين فى ائتلافه الحكومى، الممثلان فى بن غفير وسموتريتش لن يسمحا له بالتوصل إلى اتفاق مع حماس يحتوى على تنازلات كبيرة، وثانيًا لأنه مهتم ويأمل فى انتصار ترامب ولا يرغب فى منح الإدارة الأمريكية إنجازا قد يساعد هاريس فى السباق نحو البيت الأبيض، كما يشككان فى رغبته لجذبهم للتورط فى هجوم شامل على المنشآت النووية الإيرانية. وطوال أكثر من شهر ونصف الشهر امتنع بايدن عن محادثة نتنياهو، لكن فى الأسبوع الماضى تحدثا مرتين، المرة الأولى أثناء ردة الفعل الإسرائيلية على وابل الصواريخ الايرانية التى انطلقت على إسرائيل مطلع الشهر الجارى، والمرة الثانية بشأن صفقة الرهائن واليوم الذى سيلى الحرب على غزة، كما قام مرة أخرى بتهنئة إسرائيل على تصفية السنوار ولكنه أوضح لنتنياهو عن الضرورة الفورية والسريعة لاستغلال الفرصة والتوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار، وفى الوقت ذاته أعرب هو وجميع المسئولين الأمريكيين بشكل علنى عن التوقعات الأمريكية بعد مقتل السنوار. ورد بايدن بالسلب على سؤال هل يعمل نتنياهو بشكل كاف للتوصل إلى صفقة لتحرير الرهائن، أما كاملا هاريس فقامت بشرح التوقعات الأمريكية بعد التطورات الأخيرة وقالت: «من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها لقد تم تدمير حركة حماس واغتيال قائدها، هذا يهيئ لنا فرصة لوقف النار فى غزة وتحرير الرهائن وإنهاء معاناة سكان غزة فهذا هو الوقت للبدء فى المرحلة التى تلى الحرب. وتتأرجح السياسية الأمريكية بين الخوف من اندلاع حرب إقليمية وبين استغلال الفرصة التى تهيأت بعد اغتيال السنوار، وهذا الاغتيال يعتبر هدية لحملة هاريس ومن الممكن أن تكون هذه هى «مفاجأة أكتوبر» ومن الممكن أن يؤدى ذلك لخلق إنجازات سواء لهاريس فى الأمتار الأخيرة فى السباق للبيت الأبيض أو للإرث المعقد لجون بايدن. غير أن استغلال الفرصة يتعلق بتداعيات عملية الاغتيال على مواقف ورثة السنوار، وضغوطات ائتلاف نتنياهو، وشدة الضغط الأمريكى على الوسطاء مصر وقطر، لممارسة الضغط الشديد على ورثة السنوار. ومن المقرر سفر أنتونى بلينكين إلى المنطقة فى الأيام المقبلة لتوضيح كل هذه التساؤلات وتفعيل الضغوط الأمريكية،ولقد بدأت ساعة الانتخابات الأمريكية فى العمل، ولكى تثمر عملية الاغتيال عن نقطة انطلاق مهمة، يجب أن تبدأ خلال أسبوعين. الكاتب «ايتان جلبوع» محاضر لشئون الولايات المتحدة بجامعة بار إيلان وباحث فى معهد القدس للاستراتيجيات الأمنية. كاملا هاريس الحسين محمد
مشاركة :