كتاب «الموسيقى والحضارة»: هدية الموسيقار السعودي محمد السنان للمكتبة العربي

  • 5/10/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الإنسان والموسيقى، والموسيقى والحضارة، فالموسيقى مع الانسان هي البداية، بداية يعيش الجنين في الرحم على وقع دقات قلب الأم، دقات الوزن والإيقاع، فيخرج الوليد من رحم أمه ونفسه متناغمة مع النغم، وما النغم إلا ميزان وإيقاع على وقع دقات القلب منذ بدايات التكوين، ومن تواتر النغم الى الأنغام، ومن الأنغام الى فضاءات الموسيقى، وهكذا ولد الانسان والموسيقى متجذرة في أس نفسه، ومحفورة في عمق جيناته... هذه هي الانطباعات والأفكار التي تولدت في نفسي وأنا أقرأ كتاب الموسيقى والحضارة، كتاب به نفس من الحضارة ويتنفس من الحضارة... كتاب كان المؤلف قد أهداه الى أخي واستاذي الأديب إسحاق الشيخ، وأبى الأستاذ إلا أن يشارك تلميذه في أن ينهل من المعرفة الحضارية من هذا الكتاب الذي أغنى المكتبة العربية. وقد كان المؤلف صادقًا مع نفسه ومع الانسان في كليته الوجودية والوجدانية ومع فروض الحضارة عندما قال: نشأت الموسيقى مواكبة للفطرة الانسانية في الانسجام مع الإيقاع والأنغام، صفحة (53). دقة التعبير وبهذا العمق لا تأتي إلا ممن كان ضالعًا بالموسيقى علمًا وفنًا ولغةً، ولا عجب في ذلك إذا ما علمنا أن مؤلف الكتاب قد درس علوم الموسيقى على يد المايسترو الأردني توفيق جاد، وأنه أجاد وأتقن واجتهد في الفضاء الموسيقي تلحينا وتأليفا وبحثا وكتابة، وقد أسس فرقة (الأمل الموسيقية) عام 1969، وحاضر في عدة محافل داخل المملكة وخارجها عن الموسيقى العالمية والعربية وارتباطها بحضارات الشعوب، ويعكف حاليًا على إعداد مناهج متطورة لتعليم الموسيقى بالطرق العلمية. مؤلف متخصص بهذا المقام القائم على قاعدة علمية في الموسيقى، ومكرس جهده واجتهاده من أجل الانتاج الموسيقي وتطويره لهو جدير بأن يهتم المثقفون وطلبة العلم ومؤسسات الفكر والثقافة، الرسمية منها والأهلية، بأعماله الموسيقية ومؤلفاته وبحوثه عن الموسيقى. رغم أن هناك عدد من المؤلفات عن الموسيقى وتاريخ الموسيقى، إلا هذا الكتاب يعد إضافة أصيلة إلى جميع تلك المؤلفات، وللكتاب بصمة خاصة ومميزة. ينقلنا المؤلف في هذا الكتاب من تبيان لوحة تعريفية عن مفهوم الموسيقى، وكيف أن الموسيقى ليست فنًا مجردًا، بل أن الموسيقى علم ولغة وفن، فالرياضيات والفيزياء علوم تدخل في البناء الموسيقي، وأن للموسيقى لغة قائمة بذاتها، وهي تلك اللغة ذات الأصول الكتابية والقواعدية والتعبيرية والتي تستوعبها وتتبسم جميع الشعوب لمنطوق أنغامها، وجانب الفن فيها هو مهارة العزف على الآلات الموسيقية بأنواعها المختلفة والمتعددة. ويعرج الكتاب بنا إلى ملكة التذوق للفن عند الانسان في علاقة الانسان بالموسيقى، وهذه العلاقة مصاحبة للإنسان بالموسيقى منذ الأزل، فهناك تاريخ للموسيقى مثلما هناك تاريخ للإنسان وكل ما له علاقة بالانسان، ويعطي المؤلف الحق التاريخي للموسيقى، وخطوات تطوره ومحطات الصراع بين أهل التطوير والتحديث من جهة وأهل التقليد والتمسك بالقديم من جهة أخرى، ويشيد في هذا الجانب بالدور الكبير والبارز الذي قام به الموسيقار محمد عبدالوهاب في الثلاثينيات من القرن الماضي، والمؤلف يصطف مع فريق التطوير والتحديث في سياق هذا الصراع الدائم بين الانسان والانسان، هناك من يستميت للإبقاء على التخت الشرقي تختًا خالدًا، وهناك من يرى ضرورة مواكبة التطور وتطوير الجوقة الموسيقية من التخت المغلق والمحدود الى البناء الأوركسترالي الواسع والمتعدد في آلاته الموسيقية نوعا وعددا، وتطوراته في البناء الموسيقي من المونوفون مرورًا بالهارموني إلى آفاق البوليفون وعالمية الموسيقى على شاكلة السيمفونيات وأخواتها من سوناتا وكونشرتو وحتى الأوبرا. وفي هذا المضمار يؤكد المؤلف على وجود عوائق أمام التحول من موسيقى الغناء الى موسيقى الآلات، من الغناء والطرب إلى آفاق الموسيقى التعبيرية والتأملية والرومانسية، وكيف أن المستمع العربي لم يتعود ولا يستطيع أن يتذوق القطع الموسيقية الآلاتية الصرفة، مثل السيمفونيات، وأن بعض الموسيقيين أمثال محمد عبدالوهاب قد حاولوا إحداث نقلة في ذوق المستمع العربي الى تقبل الاستماع الى موسيقى صرفة وبمدد طويلة نسبيًا، فمثلاً فان الموسيقار محمد عبدالوهاب، وهو رائد التطوير، ينهج الى مقدمات موسيقية طويلة قبل الغناء، (وتقسيم الاغنية الى أربعة أو خمسة أجزاء على غرار الحركات الأربع في السيمفونيات) ويجعل لكل جزء مقدمة موسيقية طويلة، وهذا مدخل لأحداث تحول في ذوق المتلقي بغية تطويره الى مستويات تذوق الموسيقى الآلاتية وعلى مدد طويلة. ويؤكد المؤلف أن أكبر عائق أمام الموسيقار لتأليف قطع موسيقية آلاتية هو الثقافة الموسيقية عند المتلقي، هذا المتلقي في شرقنا العربي مازال أسير الكلمات في الاغنية، والموسيقى بالنسبة له أمر ثانوي، وأنه مازال يرى في الموسيقى طربا، بينما الموسيقى أكثر اتساعًا من مجرد الطرب، مهما تغنى الناس بالطرب الأصيل، وأعمق لغة من أن تكون تابعة للغة الاغنية. المؤلف من جهته ينهج المنهاج ذاته في تأليف مقدمات موسيقية آلاتية طويلة تتخطى مجسات الطرب الى آفاق التعبير، وحتى أن تأليفه الموسيقي للأغاني يوازن فيها بين لغة الكلام ولغة الموسيقى، وهو بها النهج في تلحين الاغنية وتأليف مقدمات لها يعطي التعبير الموسيقي شخصيته الكاملة، ويكاد أن يوحي للمتلقي بأن يركز على التعبير الموسيقي الصرف والبعيد عن الحدود الضيقة للطرب، فيعطيه لفتة مؤثرة تجعله يتوقف مصغيًا للتعبير الموسيقي لحظة صمت المغني، وأستشعر من هذا النهج عند الموسيقار والمؤلف محمد السنان بأنه يستثمر فترة صمت المغني لإفساح المجال أمام المستمع كي يتعود على الإصغاء بتركيز واهتمام إلى الموسيقى التعبيرية الصرفة التي لا تثير حماسة الطرب والتصفيق. المؤلف يتناول جوانب متعددة في هذا الكتاب القيم، فهو يربط بين الصحة الجسدية والنفسية بالموسيقى والتأثيرات المختلفة للموسيقى، وكيف أن جميع تلك التأثيرات هي إيجابية ومفيدة، ومن المعروف أن هناك جلسات علاج بالموسيقى. لقد أعطى المؤلف الكتاب حقه من الأصالة والإضافة ليكون مرجعًا ثمينًا في المكتبة العربية، فمع كل تلك الإسهامات الأصيلة التي ذكرناها، فقد أضفى على الكتاب نكهته المحلية، وأعطى رواد الغناء والموسيقى في وطنه المملكة العربية السعودية حقهم في دورهم ومساهماتهم الحضارية في ملكوت الموسيقى. فقد ضمن الكتاب سيرة كوكبة تربوا على الثلاثين من رواد الغناء والموسيقى في المملكة العربية السعودية، بدءًا من أوائل القرن الماضي مع سيرة الفنان محمد علي سندي من مواليد 1905، ومرورًا بالفنان طارق عبدالحكيم، وهو بحق عميد الفن الموسيقي في المملكة العربية السعودية، فقد درس أصول الموسيقى وعلومها في مصر. ولم يغفل المؤلف الموسيقار فنانًا سعوديًا إلا وجاء بذكره في كتابه المرجع وأسبغ عليه الصفة الفنية التي يستحقها والمقام الفني الذي يتبوبه في عالم الغناء والموسيقى، وآخر عنقود هذه الكوكبة هو الفنان رابح صقر من مواليد 1975. وطبعًا لا يستقيم بنا في هذه العجالة وفي مقال محدود الكلمات إلا أن نذكر الفنانين الذين ذاع صيتهما في أرجاء الخليج والعالم العربي الفنان طلال مداح الذي فارق الحياة وأنامله على أوتار عوده، والفنان محمد عبده الذي كان قد قرر ذات يوم اعتزال الفن، إلا أن الفن استدعاه إلى حضنه ثانية فاستجاب مشكورًا. وهذه الكوكبة هي امتداد لتاريخ الغناء والموسيقى والشعر ومنذ ما قبل العهد الاسلامي، وقد أسهب الكاتب في عرض تلك الفترة، ويشعرك الكاتب بهذا المدد والامتداد منذ تلك العهود الى هذا اليوم الذي خط فيه قلمه هذا الكتاب المرجع الذي أغنى المكتبة العربية، وفتح بابا في بنية التربية والتعليم ليتبوأ مكانه الشاغر. الموسيقى والحضارة ليس كتابًا للقراءة السطحية عندما يركن الانسان الى مرقده قبل النوم أو عند أوقات الفراغ لتصفح سريع وقراءة عابرة، ولكنه كتاب ذات قيمة مرجعية وقيمة ثقافية، كتاب يفرض نفسه على القارئ ليتمعن المعاني والمفاهيم والأفكار، وينهل منه ليضيف إلى مخزون ثقافته وعلمه. وحبذا لو أن وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية اعتمدت هذا الكتاب ليضاف الى مناهج الدراسة في مادة الاجتماعيات او الإنسانيات، وبدءًا من المرحلة الابتدائية الى الثانوية، مع مراجعة للتبسيط والإيجاز حسب المرحلة التعليمية. أكثر الكتب بعد أن تنتهي من قراءتها تضعها على الرف في مكتبتك الخاصة، وقد تعود ذات يوم لاستعادة تصفحها، وقليل من الكتب تلك التي تستحثك لطلب المزيد من المؤلف، كأن تطلب من المؤلف: ماذا بعد؟ هل من مزيد؟ أنا في انتظار الكتاب التالي، والتالي على التوالي. ومن يقرأ كتاب الموسيقى والحضارة لا يسعه إلا أن يطلب المزيد من المؤلف الموسيقار محمد السنان.

مشاركة :