يُعتبر مُجمّع "قصر كاسيرتا"، الواقع شمال مدينة نابولي، من أبرز المعالم الأيقونية، وأحد أشهر القصور الملكية في إيطاليا والعالم؛ وقد استحق عن جدارة إدراجه ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالميّ، فالقصر الذي بناه المهندس المعماري "لويجي فانفيتيلي" بطلبٍ من ملك نابولي في القرن الثامن عشر، يُعد تحفة فريدة لا تتكرر. ويمتاز "كاسيرتا" بتصميمه الباروكي، فيما يضم غُرفًا يصل عددها إلى 1200 غرفة، بالإضافة إلى الحدائق الشاسعة، بما تحويه من تماثيل ونوافير ومساحات للصيد ومُجمّع لإنتاج الحرير، وغيرها الكثير من التعابير البليغة والملموسة، التي تعكس الأصالة والعراقة والرفاهية في أروع صورها. في عام 1734، اعتلى الملك "تشارلز بوربون" (1716-1788)، عرش نابولي؛ تلك المملكة التي استعادت استقلالها آنذاك بعد نحو 200 عامٍ من الاحتلال الإسباني، وكونه ابن الملكة "إليزابيث فارنيزي" والملك "فيليب الخامس"، أصبح "تشارلز" رمزًا للثقافة المستنيرة، التي تجلّت في عددٍ من الإصلاحات وأعمال التجديد. ظهرت فكرة القصر في أربعينيات القرن الثامن عشر، وذلك عندما بدأ الملك "تشارلز" في تجسيد رؤاه غير المسبوقة في المنطقة، وقد بدأ الحلم نفسه يتحقق في عام 1750، وذلك عندما اشترى الملك إقطاعية "كاسيرتا" بمبلغٍ إجماليّ اقترب من النصف مليون دوقية، والدوقية أو الذهب البندقي، كانت العملة المُستخدمة في أوروبا آنذاك. في ذلك الوقت، أصبحت فكرة بناء عاصمة جديدة في الداخل، بالقرب من نابولي، فكرةً حيةً وأقرب للتنفيذ من أي وقتٍ مضى، بسبب مشاريع المهندس المعماري "لويجي فانفيتيلي" (1700-1773)، وفي 20 يناير 1752، وضع الملك حجر الأساس لموقعِ بناءٍ سيغير مصير المنطقة بأكملها. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، طلب الملك "تشارلز" من المهندس المعماري "لويجي فانفيتيلي"، بناء "قصر كاسيرتا" في شمال نابولي لمنافسة قصريّ "مدريد" و"فرساي"، ولعل السبب وراء ذلك كان التفرد عن الجذور الإسبانية من جهة، وإظهار قوة مملكته الجديدة ورقيها الثقافي من جهةٍ أخرى. فجاء قصر "كاسيرتا" ليحقق ذلك، على مساحة شاسعة بلغت نحو 47,000 متر مربع، متضمنة حديقة ملكية مبسوطة، و1200 غرفة وأكثر من 1700 نافذة، وبنظرة عليه من الخارج، سنلاحظ أنه يتخذ شكلًا مستطيلًا، فيما يحتوي على 4 أفنية مُقسمة بواسطة كتلتين من المبنى المركزي، هذا وقد شمل المشروع الأصلي جناحين نصف دائريين يحتضنان الساحة الضخمة المطلة على الواجهة الرئيسة، التي أصبحت معزولة اليوم. مدخل القصر يؤدي إلى رواقٍ طويل بثلاثة ممرات تظهر من خلاله الأفنية الأربعة، ومن ورائها منتزه وقناة مياه، فيما يمتلك القصر سُلمًا مركزيًا ضخمًا يُسمى "سلم الشرف Scalone d'Onore"، يؤدي إلى بهوٍ علوي ثُماني الشكل، مُزدان بنوافذ كبيرة، من هذا البهو أو الدهليز العلوي يمكن الذهاب إلى كنيسة القصر، التي تتسم بتصميمها المستطيل، والقبة نصف الدائرية، ورخامها متعدد الألوان، وسقفها المليء بالزخارف الذهبية. على يسار الكنيسة، توجد الشقق أو الأجنحة الملكية لـ"آل بوربون"، وتضم غرفة العرش التي تسبقها غرفة الانتظار، وجناح الملك الرئيس، وكذلك غرفة الملكة، وإلى جانب الغرف العديدة، توجد مكتبة ضخمة ومثيرة إلى حدٍ كبير، تحتوي على أكثر من 14 ألف كتابٍ عن الثقافة والأعمال الأوروبية. وبنهاية المكتبة، توجد غرفة تُصور مشهد ميلاد المسيح، وتقود الزوار إلى معرض الصور أو مجموعة الأعمال التي تتوزع على غرفٍ مختلفة، والتي أبدعها أبرز الفنانين المعاصرين مثل: "أندي وارهول" و"كيث هارينج"، كذلك يوجد مسرحٌ في الجناح الغربي، وهو نسخة مصغرة من مسرح "سان كارلو" الشهير في مدينة نابولي، وطبعًا يتميز بديكور فخم يليق بالعائلة المالكة. ويُعد "قصر كاسيرتا" الملكي الآن أحد أكبر المساكن الملكية في العالم، وموقع تُراثٍ عالمي منذ عام 1997، إلى جانب "قناة كارولين المائية Caroline Aqueduct"، أو "قناة فانفيتيللي" تيمنًا بالمهندس المعماري الذي يُنسب له الفضل في بناء القصر، يضم المُجمّع منظر "سان لوتشيو San Leucio Belvedere"، والحديقة الملكية، والحديقة الإنجليزية، وغيرها من المعالم التي تجعله رمزًا للجمال في العالم. استُلهمت تصاميم القصر من معالم شهيرة في "فرساي"، وفيلّات روما، وتوسكانا في القرن السادس عشر، ولكن على عكس هذه المواقع، استطاع القصر أن يجمع بين الحدائق والغابات الطبيعية، وأماكن الصيد، وغيرها من الروائع، ليكون أول من قدّم هذا النموذج في إيطاليا؛ النموذج الذي دمج الطبيعة بالحياة الملكية والمجتمع المحلي، حيث جمع هذا المجمع مصنعًا للحرير ومساكن للعمال أيضًا، ولم يكتفِ بمنشأة القصر أو الحدائق نفسها، وبالمناسبة، بفضل جمال حدائق القصر، فإنها استُخدمت لتصوير أفلام شهيرة مثل سلسلة Star Wars وMission Impossible. وكما ذكرنا فقد صنّفت منظمة اليونيسكو القصر عام 1997، كجزءٍ من معالم التراث العالمي، وهو مشروع أسسته المنظمة بالتعاون مع ناشيونال جيوجرافيك، بتمويلٍ من الاتحاد الأوروبي، وذلك بهدف إعادة اكتشاف المواقع الثقافية الأوروبية، الشهيرة وغير الشهيرة، لتعزيز السياحة المستدامة. ويتضمن مشروع التراث العالمي لليونيسكو 34 موقعًا ثقافيًا، موزعين على 4 تصنيفات هي: "أوروبا القديمة- Ancient Europe"، و"أوروبا الرومانسية- Romantic Europe"، و"أوروبا الملكية- Royal Europe" (يندرج قصر كاسيرتا تحت هذا التصنيف)، و"أوروبا تحت الأرض- Underground Europe". وبشكل عام يمكنك زيارة هذه التحفة بسهولة، إذ تتوفر العديد من طرق النقل وسواء بالسيارات أو الحافلات أو القطارات، فمن نابولي يبعد القصر نحو 38 كيلومترًا، ومن المحطة المركزية هناك يمكنك أن تستقل قطارًا إلى القصر، أما من العاصمة روما، فالقصر يبعد نحو 200 كيلومتر، ومن محطة "روما تيرميني Rome Termini"، التي توفر 4 خطوط سريعة يوميًا. كما يمكنك زيارة القصر على مدار العام، ولكن إذا كنت تبحث عن أفضل أوقاتها، فينصحك الخبراء بالربيع أو الصيف، حيث تكون حدائقه الواسعة في أفضل حالاتها، فقط اعلم أن المُجمع يُغلق يوم الثلاثاء، وأن "مسرح الحكمة Court Theatre" يكون مفتوحًا في عطلة نهاية الأسبوع فقط، ولا شك أن بعض الأيام تكون أكثر ازدحامًا من غيرها مثل يوم الأحد الأول من كل شهر، حيث تكون هناك تذاكر دخول مجانية للقصر وتذكرة مخفضة لزيارة الحديقة. وفي النهاية يُنصح بزيارة القصر لكلِ عاشقٍ للفخامة والتراث، فالقصر يُعد رمزًا هندسيًّا خالدًا في تاريخ إيطاليا، بفضل تصميمه الذي يمزج بين الطبيعة والإبداع، ليصحبك في رحلة عبر الزمن في أعماق التاريخ والثقافة.
مشاركة :