عُنيت الدراما العربية في عمومها، والمصرية خاصة، بالأعمال التي تتناول سير المشاهير، من أعلام التاريخ والسياسة وبالطبع الفنون، وأصبحت لدينا قائمة طويلة من المسلسلات «السيرية»، ومع تفاوت جودتها الفنية، فقد بقي الكثير منها في الذاكرة العربية. لو أننا عددنا الأعمال التي لا يزال يتذكرها الجمهور أو تلقى بعض الجماهيرية رغم مرور السنوات، فربما تسقط من ذاكرتنا أعمال مهمة، لكن هذا لا يمنع أن نتوقف أمام بعض العلامات الدرامية، فتاريخيًا نجد مسلسلات «هارون الرشيد» و«عمر بن عبد العزيز» و«أبو حنيفة النعمان» و«عصر الأئمة» من الدراما المصرية، ومن غيرها «امرؤ القيس» و«المرابطون والأندلس» و«صقر قريش». ومن التاريخ القريب، «الإمام محمد عبده» و«إمام الدعاة» و«أم كلثوم» و«الملك فاروق»، إضافة إلى مسلسلات أخرى ربما لم تحقق النجاح ذاته منها «العندليب، حكاية شعب» و«السندريلا» و«قاسم أمين». مبكرًا، اهتمت الدراما بالسير الذاتية، ففي عام 1979 كانت الجماهير العربية على موعد مع مسلسل «الأيام»، عمل درامي مصري يتناول قصة حياة عميد الأدب العربي طه حسين، مستوحى من سيرته الذاتية الشهيرة، ومقدمًا رحلة مؤثرة في حياة الأديب الكبير، من طفولته المبكرة وتحديه لفقدان بصره، وصولًا إلى نجاحاته العلمية والأدبية. ولعلنا نذكر إبداع النجم أحمد زكي في تجسيد شخصية حسين، مع نخبة من نجوم الفن المصري، منهم يحيى شاهين ومحمود المليجي وأمينة رزق وحمدي غيث، بالإضافة إلى موسيقى ساحرة من تلحين عمار الشريعي وأغاني من كلمات سيد حجاب، كل ذلك برفقة سيناريو أمينة الصاوي وأنور أحمد، وتحت قيادة المخرج يحيى العلمي. لكنّ الملاحظ فيما سبق، أن هذه الأعمال تناولت حياة أعلام راحلين، أو على الأقل أُنتجت بعد رحيلهم، ولو بسنوات قليلة، كما هو الحال في مسلسل «الأيام» الذي أنتج بعد وفاة العميد بست سنوات، إذ رحل مؤلف «مستقبل الثقافة في مصر» في أكتوبر/ تشرين الأول 1973. هذا دون أن نغفل أن بعض الأعمال جسدت شخصيات لا تزال على قيد الحياة، لكنهم لم يكونوا الشخصية الرئيسية، كأن نشاهد الممثل محمود البزاوي في دور الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في «العندليب» 2006. سفينة لا تتوقف كل ما سبق يشير بطرائق متباينة على أهمية أن يُنتج العرب مسلسلًا عن شخصية مؤثرة معاصرة، لا تزال تعطي وتقدم خدماتها للمجتمع، وهو ما يدعونا إلى الاحتفاء بمسلسل «فنان العرب محمد عبده»، فمنذ فترة قريبة، كشف رئيس هيئة الترفيه السعودية، المستشار تركي آل الشيخ، ووزير الإعلام السابق تركي الشبانة، عن إنتاج مسلسل يحكي قصة الفنان المخضرم، ونجوميته التي حافظت على وهجها عبر العقود، وفيلم عن أسطورة كرة القدم الكابتن ماجد عبد الله. وهو الإعلان الذي يُمكن أن يُعد حدثًا نادرًا، إذ قد تكون أول مرة، يعلن فيها وزيران معًا، عن مشروع واحد، مما يبعث برسالة جادة ومهمة مفاداها أهمية عبده وعبد الله، بوصفهما شخصيتين بلغتا «مقام الثروات الوطنية». ولأننا نناقش هنا الأعمال الدرامية، فسنرجئ الحديث عن «كابتن ماجد» أحد أساطير الكرة السعودية والعربية إلى وقت لاحق، متوقفين أمام الإعلان عن مسلسل يحكي سيرة «فنان العرب» والمولود في يونيو/ حزيران 1949 أي منذ أكثر منذ خمسة وسبعين عامًا، مدّه الله بالعافية، لنصبح في انتظار عمل يتناول أحد أعلام الموسيقى والغناء العربي، وسيشاهده معنا، ويرى تاريخه مجسدًا على الشاشة. المسلسل الذي يكتبه الشاعر والروائي والكاتب السعودي عبد الله ثابت، سيحكي عن نجم ساطع في سماء الفن العربي، أشرق من أعماق الجزيرة العربية ليشع نورًا عل أرجاء العالم. حنجرة ذهبية صاغت من الحروف أنغامًا سحرت الملايين، فغنى للحب والوطن والطبيعة، ولامس بآهاته أوجاع وأفراح الشعوب. رحلة فنية امتدت لستة عقود، رسم خلالها لوحات فنية بديعة بألوان من الذهب الخالص. قيثارة صنعت من أرق العواطف وأصدق المشاعر. حروفه سهام تصيب القلوب، وألحانه أنامل تسحر الأرواح. مسيرته حكاية نجاح أسطورية، بدأت من نقطة صغيرة لتصل إلى العالمية. صوتٌ خالدٌ لا يمحوه الزمن، واسمٌ سيظل محفورًا في ذاكرة الأجيال. فمن مهنة بسيطة كبيع المأكولات والمشروبات، أول عمل امتنهنه عبده في الرابعة عشرة من عمره إلى مسارح العالم. هكذا انطلقت الرحلة، وبدأت الحكاية في المعهد الصناعي بجدة، وتشكلت روح المبدع، وحُفرت في نفسه بذور الفن. كانت إيطاليا وجهته الأولى، لكن القدر شاء أن تحمله الرياح إلى بيروت، ليكون هناك مهدًا لنجم ساطع في سماء الفن العربي. رحلة قد تتطابق وقصيدة عبد الله ثابت نفسه من مجموعته «ميال.. رجال بباب القبو» 2013، «لم يخطر ببالي وأنا أقطع الأرياف والمدن/ أني سأعلق بالأغاني المطمورة في البيوت المهدّمة،/ وخلف الجدران المتروكة للأحزان والوحدة/ وخلف حيطان المواعيد السريعة/ ولم أدرِ أني في كل منعطف وجبلٍ وساحل/ سأحمل معي فجائع الأحناك!/ ما خمّنت، وأنا أعبر الصباح والظهيرات/ وأواخر الليالي، والبكاء/ أنْ سينبت في كل عظمٍ مني صوت وكلام/ أنْ سيكون على ظهري وشم أغنية/ بين أصابعي فتات أغنية/ وفي عينيّ لمعة أغنية!». بنية مزدوجة بمعرفتنا بنتاج كاتب المسلسل، كاتبًا ومثقفًا وشاعرًا، يمكن أن نتلمس أهمية إنتاج العمل من خلال إبراز إرث فني عريق، لأيقونة فنية ترك بصمة واضحة في تاريخ الموسيقى العربية والخليجية، ومن ثمّ يتيح العمل للجمهور فرصة التعرف على فنان العرب عن قرب، وكيف شكلت تجاربه؛ حياتية وفنية، شخصيته الموسيقية المميزة. واختيار ثابت للتصدي لمهمة صعبة لهو أمر عظيم لمن يتابع الكتابة الشعرية والسردية السعودية، فثابت يمتلك قدرة فذة على صياغة عوالمه، فهو ليس مجرد كاتب بل صانع عوالم متكاملة. تشهد أعماله على شغفه بالتجريب، إذ يمزج بين الواقع والخيال، بين العقل والقلب، ليخلق لنا تجربة قرائية مغايرة ومبهرة، تسبر أعماق النفس البشرية، وتلامس أوتار القلوب وتترك أثرًا يبقى صامدًا في وجه الأيام. يترقب الجمهور العربي عملًا من شاعر وكاتب قادر على أن يحكي ويشوق، يثقف ويمتع، يفتح آفاقًا أعمق لفهم الثقافة السعودية وتراثها الغني، مما يعزز الهوية الوطنية، إذ يمثل صاحب أغنية «الأماكن» رمزًا للفخر الوطني، فضلًا عن تقاطع تاريخه الفني والإنساني مع تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث، وتتيح السيرة لمؤلف المسلسل أن يعرج على التغيرات الاجتماعية والثقافية التي مرت بها المملكة خلال العقود الماضية. وبشأن علاقة سيرة عبده بتاريخ المملكة، يترقب الجمهور أن يستكشف رؤى جديدة لمسار الدولة السعودية الراهنة، منذ الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود- رحمه الله- حتى تلك اللحظة التي تشهد ميلاد نهضة شاملة في ظل عراب الرؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وما شهدته البلاد من تطورات ثقافية واجتماعية واقتصادية ورياضية وغيرها من الإنجازات الملهمة، فالميلاد كان في الأربعينيات في السنوات الأولى للدولة الجديدة، ثم الانطلاق والتألق في السبعينيات والثمانينيات، قبل أن يتربع على عرش الغناء كمعادل موضوعي للمكانة التي تبوأتها المملكة. يأتي مسلسل «فنان العرب» في لحظة تاريخية مفصلية على مستويات عدّة، ومن ناحية الإنتاج الدرامي لا يزال التلفزيون الطريقة الأبرز التي يستهلك بها الجمهورُ القصصَ، وغالبًا ما تكون الأعمال الفنية مصدر إلهام لبعضها البعض، أو الاقتراض من بعضها البعض أو إنشاء نسخة خاصة بها من الحكايات ذاتها، مما يصب بالنهاية في مصلحة الجمهور ومتعته، لتنتشر الفنون عامة، سواء من خلال المسرح أو التلفزيون أو خدمات بث الإنترنت. نترقب معًا، كجهور وصاحب السيرة نفسه، عملًا يحكي ويروي، استنادًا إلى خبرة المؤلف السردية والشعرية، فثابت يدرك جيدًا ازدواجية بنية العمل الدرامي، بمعنى أنه نظام حكائى وخطاب في الوقت ذاته، تتمثل الصورة الأولى في بنية تجريدية مطلقة، على حين تقوم الأخرى على أساس من التوتر القائم على المشابهة والاختلاف في مفهوميهما العام. ومن ثمّ قد نصبح أمام فرصة ثمينة للتعرف على حياة أحد أهم رموز الفن العربي من جهة، ولتعميق فهمنا للتاريخ والثقافة من جهة أخرى، أو علينا أن نعمل بنص ثابت الشعري من ديوانه الأخير «الإلهاء الرائع»: «الحُمرَة.. براعةُ الكُرُوم/ رحيقُها المُوزَّعُ بألفِ مذاق،/ فجَهِّزْ كلامَكَ الأنيق../ تأكَّدْ أنَّ المُوسيقَى جيِّدة،/ واترُكِ الباقي عليها!»، بالتالي ليس علينا سوى أن ننتظر ومن بعدها نسأل ونناقش.
مشاركة :