قلوب الوالدين لا تشبه أفئدة الطير، بل هي أشدّ رقّة منها، قلوب الوالدين قلوب تفيض رحمة وحبًّا وشوقًا، ومنذ اللحظة الأولى التي يعلم فيها الوالدان تشكّل الحلم برؤية طفلهم، يمرّ هذا الحب بمراحل عدة، بدءًا من الخطبة وتباشير الحياة الجديدة، وحتى الاحتفال بسلامة الأم والمولود وانضمام فرد جديد للعائلة الصغيرة التي بدأت تكبر. في هذا المقال الذي يتكوّن من جزئين، سوف أناظر ما كتبه الأستاذ عبد الله الزهراني رئيس تحرير صحيفة مكة في مقاله بعنوان: “الوالدان بين الحب والتربية” والذي أستعرض في الجزء الأول منه صورًا لهذه المراحل من وجهة نظره، بينما سأستعرض جانبًا آخر من مراحل حياة الوالدين والتي قد تتفق مع بعض وتختلف مع آخرين. المرحلة الأولى: مرحلة الخطبة قد يسبق المرحلة فترة التفكير في الشريك فتاة الأحلام أو فتى الأحلام الذي سوف يأتي على فرس أبيض ليحمل حبيبته…هكذا في عالم الخيال، ويرسم كلّ طرف تصورًا معينًا من حيث الشكل والمضمون عن الطرف الآخر…غالبا ما يحدث الحبّ وتلتقي الأرواح بغضّ النظر عن التصورات السابقة من حيث الشكل أو أي معايير أخرى؛ فالحب يدخل القلب من دون استئذان. وفي مرحلة الخطبة يعيش الطرفان حياة حالمة فيها الكثير من الحبّ واللطف والاشتياق، وقلّما يكون هناك نقاش حقيقي حول الحياة الزوجيّة، خاصة لزوجين في مقتبل العمر ربما يتغير لمن هم في مرحلة الخطبة في سنوات العمر المتقدمة أو ممن كان لهم تجارب سابقة. في هذا السياق. لا شك أنّ المرحلة مهمة للغاية للحديث حول الأساسيات في الحياة الزوجية كمكان استقرار الطرفين، لاسيما أنّه بدأـت تظهر حالات يضطر فيها الزوجان للعيش في مدينتين مختلفتين أو في مناطق مختلفة. فلابد أن يكون هناك مع الحب والعاطفة حديث عقلاني حول أمور الحياة الحقيقيّة: المصروف، مكان السكن، عدد الأطفال وغيرها من القضايا الجوهرية. ولا شكّ أنّ مرحلة الخطبة من أهم المراحل في الحياة الزوجية، فهي تمثّل فترة دراسة وتحليل وقبل ذلك ارتياح لتكوين علاقة سليمة وإيجابيّة بين الزوجين وهي بداية تكوين عائلة صغيرة لها احتياجات ولها حقوقها كما لها واجباتها. الأسرة هي الأساس الذي يقوم عليه مستقبل الأبناء. المرحلة الثانية: عقد القران يدخل الطرفان عشّ الزوجيّة بتصوّرات كثيرة، وأحلام ورديّة، وشهر عسل لا يعلم أحد هل هو عسل أو لا ففي بعض الحالات قد يتحوّل إلى منعطف كبير يصل إلى الطلاق بسبب اختلاف التوقّعات بين الطرفين، وهذه حالات استثنائية جدا. لكن في المجمل ينشغل كثير من المقبلين على الزواج بأمور شكليّة تصرفهم عن جوهر الأمور وعن الإعداد لمرحلة انتقالية يعيش فيها فردان من بيئتين مختلفتين وعائلتين متباينتين _ وإن كانا من ذوي القربى _ فعلى الطرفين في هذه المرحلة أن يكونا أكثر واقعية حول متطلّبات الحياة بعد عقد القران. فمع الفرحة العارمة التي يعيشها الطرفان من حيث الاستعداد لليلة العمر، قد لا يتنبّها لأهمية التفكير في تفاصيل ما بعد القران. فيتجاوزا فترة مهمة من الاستعداد النفسي كان عليهما خوضها كحضور دورات المقبلين على الزواج والتحدث بشفافية عن مرحلة ما بعد حفل القران والحماس والعاطفة. المرحلة الثالثة: الحمل قد يحدث قبل الزواج أن يتحدّث الخاطبان عن توقعات كلّ طرف عن الحمل والفترة المناسبة للانتظار قبل التخطيط له، بالمقابل هناك كثير ممن يلغي أي حديث عن الحمل، ويتركه لما بعد الارتباط الفعلي. علمًا أنّه أحد أهم الأمور التي تحتاج إلى حوار ونقاش، فقد لا يتفهّم أحد الطرفين رأي الآخر أو ظرفه سواء كان لسبب مادي جوهري، أو لارتباط أحدهما بدراسة، أو عمل، أو سفر يبعد أحدهما عن الآخر فترة من الزمن. لكن لا شك أنّ مرحلة الحمل من أجمل مراحل حياة الزوجين، تتخلّلها تجارب جميلة جدًا كون الزوجين يعيشان هذه التجربة لأول مرة في حياتهما، سيكون لمرحلة الحمل بالطفل الأول تحديدا مواقف لا تنسى بينهما ابتداء من خبر الحمل وحتى الولادة، يتخللها اقتراح الاسم المناسب واختياره …كل خطوة يخطوها الزوجان في انتظار المولود الأول تشكّل حدثًا مهمّا لهما. فهذه الروح التي تكونت داخل الأم لا شك أنّها تعزّز وتؤكد الوثاق الزوجي بين روحين. المرحلة الرابعة: ازدياد الحب في كل مرحلة من حياة هذه المضغة التي تكونت بقدرة الله عزوجل يكون هناك ألم وأمل…ألم يصاحبه مشاعر مختلطة وغريبة تعتصر روح الأم تحديدًا التي تخوض هذه التجربة لأول مرة في حياتها، ترتقب المجهول الجميل الذي يتكون في أحشائها.. تغيّرات فسيولوجيّة مختلفة مع كلّ مرحلة من مراحل الحمل الثلاث، فكلّ ثلاثة أشهر هي بمثابة مرحلة مختلفة لها مشاعرها المختلفة، ولها انفعالاتها، ولها محاذيرها بالذات في عرف الجدّات والأمهات الخبيرات؛ فيحذّرن الأمَّ الحديثة التي تترقب بحبّ حركات جنينها كلّ يوم، أن عليها الانتباه لطعامها وشرابها، فبعض المشروبات كالقهوة والشاي يجب تناولها بحذر؛ لأنّهما يوتّران الجنين فتزيد نبضاته وتدفعه إلى الركل بشكل أقوى. بينما الأب ينتظر المولود بلهفة، لكنّه لا يدرك ماهيّة المشاعر والآلام التي تنتاب زوجه، هو فقط يرى انتفاخ البطن يزيد كلّ مرحلة…يا له من ضيف جديد ينتظره الجميع لتكبر الأسرة. المرحلة الخامسة: الشوق لرؤية المولود ويا لها من أحداث عظيمة! ها هي الأم التي تجرّب المخاض لأول مرّة، وتتخيل ملامح من حملت بين أحشائها تسعة أشهر، لم تره بعينيها، بل رأته بقلبها وجوارحها، بآلامها وتقلّبات مزاجها…ربّما تكون رأته في السونار لكنّها صورة صامتة لا تفاصيل فيها، قد لا تهتم بجنسه قدر اهتمامها المشوب بالقلق حول اكتمال خلقته أولا وأخيرا…تلك الروح التي شاركتها مشاعرها أفراحها وأحزانها طعامها وشرابها من خلال حبل سريّ لا أظنه ينقطع بالولادة بل يستمر مدى الحياة…هذا ما يشغل قلب كلّ أم عن أي أمر آخر يتعلّق بملبسه أو سريره ، أو ماذا ستعدّ من شكليات لاستقباله، وربما فكّرت بهذه الشكليات لكن من دون مبالغة وتكلّف ممقوت كوسيلة لصرف المشاعر في اتجاهات إيجابيّة بدلًا من الصوارف الباعثة للقلق حول هذا المولود القادم الذي يسيطر ليس فقط على تضاريس جسدها بل على كلّ ثنايا فكرها. المرحلة السادسة: الولادة وفرحة وصول الضيف المنتظر أثناء الولادة تختلط المشاعر فعليًّا، فها هي لحظة الفرج والفرح… الفرج بخروج جسم من جسم، وروح من روح، والفرح بالطفل والأمومة والعودة إلى كائن منفرد يأكل منفردًا ويعيش منفردًا من دون أن يفكّر هل التحرك فجأة يضر جنيني أو لا وهل السفر الآن آمن أو لا…. ولكن مهلا، لأول مرة منذ 9 أشهر أو أكثر قليلا تشعر الأم بألم بل بآلام تهزّ كيانها، إنّها آلام المخاض، ليست أمرًا هيّنا. وصفها القرآن الكريم على لسان مريم أثناء ولادة المسيح عليه السلام، فأمرها عزّ وجلّ وهي في قمة ألمها وخوفها “فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ” فحزمة المشاعر المتضاربة من قلق وخوف وألم واطمئنان تحدث في آن واحد، وتشكّل هزّة نفسيّة كبيرة، ورحلة لا يدركها إلّا الأمهات، و لا يمكن للآباء أبدًا أن يتخيّلوا مقدار الألم الذي يعجز عن تحمله إلّا الأمّ…ثمّ ترى وجه ذلك المولود الذي انتظرته طويلًا، فتبتسم، ثمّ تبكي في مشاعر مختلطة عظيمة الأثر تنسى معها آلام المخاض …فلله در الأمهات. والآباء المرحلة السابعة: اختيار اسم المولود ثمّ اختيار اسم الحبيب الذي طال انتظاره، وحان ما لا يمكن تأجيله، سابقًا كان فؤاد الأمّ مشغولا باكتمال خلقته أولًا، وتسهيل وضعه حتى تحتضنه ثانيًا، ليشاركها هذه المرحلة شريك حياتها. أيّ شعور أجمل وهي تنتقي اسما تكنّى به…أم فلان أو أم فلانة…. شعور رائع لا يمكن تصوّره، وأسأل الله ألّا يحرم أحدًا منه. وفي خضم البحث عن الاسم، تنهال الاقتراحات من الأهل وخاصة من الآباء والأجداد، فكلّ يقترح اسمًا عملًا بهدي رسول الله ﷺ فهي مسؤولية عظيمة: فمن السنة تسمية المولود باسم حسن؛ لما رواه أبو داود وغيره مرفوعا: “إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسّنوا أسماءكم”. والبعض من الإباء يقدّرون معاناة مَن حملت تسعة أشهر فيتركون لها حرية اختيار اسم المولود، الذي سيكون في النهاية قرارا تشاركيًّا بينهما يحمل الكثير من الحب والمودة والرحمة منهما تجاه طفلهما الذي هو نتاج رباط مقدس. المرحلة الثامنة: العقيقة قبل العقيقة، وفي اليوم السابع يؤذّن في أذن الطفل، ويسمّى باسمه المقرّر سلفًا، سمّاك الله فلانًا أو فلانة. ثمّ تكون العقيقة، ويجتمع الأهل والأحباب. قال النبي ﷺ”: مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، و أميطوا عنه الأذى” . وعن أم كرز أنّها سألت رسول الله ﷺ عن العقيقة فقال: “عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة، لا يضرّكم ذكراناً أم إناثاً”. وعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله ﷺ «أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة”. وعلى الغالب فإنّه احتفال كبير لا يمكن أن تنسى تفاصيله، البعض قد يؤجّله حتى التعافي التامّ للوالدة. يا لها من لحظات لا يمكن وصفها ولا التعبير عنها ببضع أسطر، وتبقى ذكراها وتفاصيلها مع الأم أكثر من الأب كون الاحتفال بالغالب يحضره نساء العائلة. المرحلة التاسعة: الختان (الطهار) للولد وخرم الأذنين للبنت تُعدّ لحظة الختان من أصعب اللحظات على الوالدين، وبالأخص على الأم…تلك الروح التي حملتها بين جنبيها تسعة أشهر، لا تطيق سماع بكائها جوعًا، فكيف تتحمله إن ألمًا، إنّه الألم الأوّل للصبي، ولا أعلم هل يعادله ألم خرم الأذن للبنت. تشعر الأم أنّ قلبها يكاد يتفطّر؛ لأن وليدها يبكي بقوة، ويتألّم ألمًا شديدًا نتاج أمر حتميّ لا يمكن تسويفه اتباعًا للسُّنّة. وأذكر أنّي مررت به في مكان ولادة صغيري، حيث ذهبت أجرّ قدميّ أحاول تأجيله لكن لا مفرّ. حضرت الممرضة وأخذته من بين يدي، وخرجت به فخرج قلبي معها. وفي حجرة مجاورة عندما سمعت صراخه كدت أقفز لإنقاذه، ووالده ينظر إليّ ضاحكًا ويقول: عليك الهدوء الأمر بسيط، ويشرح لي ما يدّعي أنه بسيط، لكن كيف له أن يشعر بمشاعر رضيعي. لحظات كثيرة لا يدركها الأبناء إلّا عندما يصبحون آباء. فلله درّ الوالدين. في الجزء الثاني من المقال، سوف أتحرّى إكمال مراحل أخرى تعكس صورًا من مراحل حبّ الوالدين للأبناء.
مشاركة :