خلال مسيرتي المهنية كنت أتساءل: هل أنا طبيبة قلب أم طبيبة أمراض قلب؟ أعيش في جلباب تخصصي كطبيب قلب وكأني لا أرتدي سواه، ويسكنني حب للأدب أخفيه، عندما يراني أحدهم أول ما يثير اهتمامه كيف نحافظ على قلوبنا سليمة وكيف نسلم من الألم؟ أضع يدي على قلبي وأردد (ولنا في القلب منافع أخرى). القلب هذا العضو الصغير بحجم كف اليد والذي كلف من الله بتغذية الجسم بالدم النقي والبقاء ساهرا ينبض من أجل باقي الأعضاء لا يقف عن النبض حتى لو نام أحدنا أو ارتحل، يترجل ساكنا إذا تعب وحان رحيله، وإذا ما جد أمر اتهمناه بأنه من أودى بنا إلى الوجع. حركته تعني الحياة وتوقفه نذير نهاية العمر إذا صلح صلح الجسد كله وإذا مرض تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمى. في حياتنا نخشى جلطة القلب والذبحة الصدرية، نخاف من تلف عضلة القلب، ونتحسس الصمامات خوفا عليها من العطب، كل ما يهمنا أن يكون بخير لنكون كذلك، تأتي سيرة ألم القلب بصوت عال وضجيج حين نتكلم عن فسيولوجيته والعمل الذي كلف به من خالقه لنعيش، ونهمس حياء حين نتحدث عن أسراره وما سكن فيه من وجع الحب، لابد أن ندرك أن العلاقة وثيقة بين وظيفة القلب العضوية وبين ما يسكن به من مشاعر. فرق بين ألم القلب ووجع القلب، نشتكي من أعراض ألم القلب وننكر وجع القلب (وكلاهما وجع). الجلطة القلبية قد تحدث نتيجة انفعال عاطفي حزينا كان أم سعيدا، زيادة ضربات القلب أكثر ما تكون عند التعبير عن مشاعر الفرح والحزن، وتلف عضلة القلب قد ينتج عن انكسار عاطفي شديد وصدمة نفسية حادة. إذن القلب عضو مهم لوظائف الحياة والعضو الأهم في المشاعر الإنسانية. هناك حالة مرضية حين يولد الإنسان حيث يكون القلب في المنتصف أو على اليمين بدلا من مكانه الأصلي على اليسار، هل تختلف وظيفة القلب الفسيولوجية في ضخ الدم؟ لا، هل تختلف مشاعر الحب والحزن والغضب؟ لا، إذن هو ذلك الظاهر الخفي، ذلك الكهف الذي يسكننا ونسكن إليه، يحوي كل أسرارنا وما نخفيه وما نخشى أن يظهر، نلومه عند إخفاقنا في الحب ونمجده إذا ما بادله الحب قلب آخر، يزين هدايانا وكلماتنا الجميلة (من قلبي أهديتك، وقلبي يحبك، وقلبي سأل عليك) وكلنا ذاك الرجل الذي يضع يده اليمنى على صدره ويهمس (آه يا قلبي ماحد درى عنك) وليتهم يعلمون. هل هي الحقيقة أن القلب قام بكل ذلك دون أن يغادر مضجعه في صدرونا؟ هل نجور عليه حين نحمله ما لا يطيق؟ لماذا نعاقبه إذا ما أحب ونحنو عليه إذا ما اشتكى من عارض؟ (قلبي يوجعني، ضربات قلبي سريعة، ضيق في التنفس، دوخة) كلها أعراض صحية عارضة أو قد تدوم، ولكن ماذا عن (شوق يعصر قلبي، رجفة قلبي في انتظاره، أشهق حين أراه، تميل بي الدنيا إذا ما غاب) كلها نفس المعنى ولكن السبب مختلف، قد يبقى أحدنا في وجع شديد وألم يعتصر فؤاده ولا يستطيع الشكوى ويخشى أن يفضح أمر ما اعتلاه، وإذا ما مر به عارض صحي أو سمع عن أمراض القلب أتى مسرعا لنجدة قلبه والحفاظ عليه من عطب أو خلل. مجمل حديثنا (حدثني قلبي) (أذكر الله في قلبك). على الجانب الآخر نجد القلب متربعا على أسطر المعلقات والقوافي، سلاح الشاعر الذي يحارب به وينتصر، وكأن الشعر لا يستقيم بدون أن يدخل المحب على حبيبه مقدما القلب قربانا للحب، جلال الدين الرومي يقول (ضاع في آثارهم قلبي، فلا معهم قلبي ولا قلبي معي) كيف يكون هذا الشعور وقلبك مازال ينبض بين جنبيك؟ هل حقا قلوبنا ليست معنا حين نحب؟ أن القدرة على الاندهاش عند متابعة الجمال في كل الأشياء هي من صفاء القلب، أن أحببنا أسعدنا أن نرى من المحبوب كل فعل جميل وإذا مرض القلب واندهش بأن ألمه أقل اليوم ساعدته فرحة العافية على الشفاء. على الوجه الآخر نجد المعلقات، أبيات القصائد، الأغاني، مراسيل الحب شوقا أم عتابا كلها تأتي بالقلب رسولا ومتهم من أقوالهم: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (احرص على حفظ القلوب من الأذى، فرجوعها بعد التنافر يصعب، إن القلوب إذا تنافر ودها، شبه الزجاجة كسرها لا يشعب). والمتنبي يقول (القلب أعلم يا عذول بدائه، وأحق منك بجفنه وبمائه، أأحبه وأحب فيه ملامة، أن الملامة من أعدائه)، وعنترة بن شداد قال (أقاتل أشواقي بصبري تجلدَ، وقلبي في قيد الغرام مقيد). وابن الفارض يقول (يا قلب أنت وعدتني في حبهم صبرا، فحاذر إن تضيق وتضجرا). وزكي مبارك قال (وبين القلب والعين، سجالا كانت الحرب، فمنه الصد والبعد، ومني العفو والقرب، فصبرا أيها القلب، على ما يفعل الحب). القلب هو الحياة هو الفؤاد الذي يرطبه الحب، هو سكن المشاعر وأمين السر لولا القلب لما كان هناك حب ولا كان هناك أدب. مما قلت (يا قلب أحفظ ما اتمنتك من الهوى، ولا تجعل للعاذلين عليك سبيل، فأنا أحبه رغم هجره والنوى، فهو دواء الروح وهو الخليل). اللهم أن نستودعك قلوبنا ومن فيها وما فيها، اللهم احفظها من الألم ومن وجع الفراق، اللهم آمين والصلاة والسلام على من سكن قلوبنا حبا وعلمنا الأدب، اللهم صل وسلم عليه. DrEmanMA@
مشاركة :