ستسجل حرب إسرائيل، غير المسبوقة، في غزة، والتي تمخضت عن نكبة لا تقل بأهوالها ونتائجها العميقة عن أحداث النكبة الأولى، وإن أتت بشكل أفظع وأبشع وأكثر قسوة في مآسيها من سابقتها، كإرث لزمن نتنياهو في السياسة الإسرائيلية، وهو امتداد لإرثه الخاص في تقويض اتفاق أوسلو، منذ جاء إلى سدة السلطة في إسرائيل، كرئيس للحكومة، لأول مرة، في العام 1996، في أعقاب اغتيال اسحق رابين؛ الذي عرف في حينها كأحد أهم المحرضين عليه. هكذا فإن سيرة نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، لا تقتصر فقط على كونه الرجل الذي احتل ذلك المنصب في إسرائيل أكثر من أي شخص آخر قبله (17 عاما حتى الآن)، وحتى أكثر من بن غوريون المؤسس (14 عاما)، وذلك في حقب ثلاث، كزعيم لحزب «الليكود» القومي اليميني (الأولى 1996-1999، الثانية 2009-2021، الثالثة منذ أواخر 2022 إلى الآن). أيضا فإن تلك السيرة لا تقتصر على كونه الرجل الذي هيمن على سياسة إسرائيل، في العقود الثلاثة الماضية، فهو الرجل الذي أثر كثيرا في طبيعة التحالفات السياسية في إسرائيل بتركيزه على التحالف بين اليمين القومي والقوى الدينية، وهو الذي رسم خياراتها مع محيطها، وحد من إمكان تطبيع علاقاتها مع الفلسطينيين في 48 أو في الضفة والقطاع، عبر سعيه لعزل السلطة الفلسطينية وتحجيمها. على الصعيد الداخلي اشتغل نتنياهو، بشكل حثيث، على تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية على حساب طابعها كدولة علمانية، ليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود)، كما اشتغل على تغيير طابع النظام السياسي في إسرائيل، بسعيه لتقويض السلطة القضائية، من خلال تحجيم دور المحكمة العليا في الرقابة على الحكومة، وتاليا تحويل إسرائيل إلى دولة الأغلبية العددية، الأمر الذي يحصر كل السلطات في يد السلطة التنفيذية، أي في يد الحكومة التي يترأسها، والتي انبثقت من أغلبية في الكنيست، الأمر الذي يمكن ترجمته بحصر الديمقراطية في صناديق الاقتراع، ما شرع اتهامه من قبل خصومه بمحاولة تحويل إسرائيل إلى دولة دكتاتورية. تبعا لكل ما تقدم، فإن نتنياهو سيعرف، أيضا، أنه رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي تسبب في تصدعات كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، بين المتدينين والعلمانيين، والشرقيين والغربيين، وبين المستوطنين المتطرفين في الضفة والإسرائيليين، وبين العرب واليهود في 48، إلى حد أن عديد من المفكرين والأكاديميين في إسرائيل باتوا يتحدثون عن خشيتهم من تحول إسرائيل إلى دكتاتورية، ومن نزوع نحو الفاشية، وحتى من ممهدات حرب أهلية. هكذا، ففي عهد نتنياهو، أيضا، كرئيس للحكومة، شهدت إسرائيل مظاهرات عارمة تخرج ضده وضد سياساته، في المدن الإسرائيلية، منذ أول يوم جاء إلى رئاسة الحكومة (أواخر عام 2022 وحتى الآن)، بل إنه في عهده تراجعت ثقة الإسرائيليين في أمنهم وفي جيشهم وفي حكومتهم، أكثر من أية فترة مضت. مع ذلك يمكن ملاحظة أن هذا الرجل مازال يواصل سياسته غير عابئ بأي شيء، لا بتراجع مكانة إسرائيل في الرأي العام العالمي، ولا بخساراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ولا بتضعضع علاقاتها مع دول العالم، بل إنه، وبسبب دعم الولايات المتحدة الأميركية، استطاع تعويم مكانته، فبعد أن كان في نهاية زمنه السياسي، بعد الضربة التي تلقتها إسرائيل في «طوفان الأقصى»، إذا به يستعيد مكانته، ويغدو بمثابة الرجل الذي لا يوجد منازع له على مكانته، سيما بعد الضربات الهائلة والموجعة التي وجهها إلى حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة. هكذا سيسجل لنتنياهو، على الصعيد الفلسطيني، أنه الرجل الذي وضع في مركز اهتمامه أو إرثه السياسي تقويض اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، ووأد حلمهم بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بكل الأشكال، مع إبقاء السلطة الفلسطينية عند حدود الحكم الذاتي المقيّد، وعند حدود فكرته عن «السلام الاقتصادي»، أي مجرد فلسطينيين من دون أي حقوق وطنية، ومن دون أي تعبير سياسي مستقل، وقد استمر في ذلك منذ حقبته الأولى (عقب اغتيال إسحق رابين)، حيث ناهض عملية التسوية، ومشاريع «الشرق الأوسط الجديد»، ثم في حقبتيه الثانية، والثالثة، على نحو ما شهدنا سواء في تجميده المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في تمريره «قانون أساس» اعتبار إسرائيل دولة قومية لليهود، ما يضع فلسطينيي 48، من مواطني إسرائيل، في درجة أدنى، إزاء مواطني إسرائيل اليهود. إضافة إلى ذلك، بات نتنياهو يعرف أنه الرجل الذي خاضت إسرائيل في عهده (الثالث)، أطول وأقسى حرب في تاريخها (منذ 13 شهرا حتى الآن)، ضد الشعب الفلسطيني (ثم ضد لبنان) وأن تلك الحرب كانت الأكثر كلفة من النواحي العسكرية والسياسية والأخلاقية على الفلسطينيين وعلى إسرائيل أيضا. مع ذلك، فضمن إرث نتنياهو سيسجل، أيضا، أن في عهده فقدت إسرائيل مكانتها كدولة آمنة ورادعة، رغم كل ما تبديه من جبروت عسكري، وأيضا فهي فقدت مكانتها كضحية، في الضمير العالمي، إذ باتت تعرف كدولة تمارس حرب إبادة وحشية ضد الفلسطينيين، إضافة إلى كونها دولة «أبارتهايد». باختصار بالنسبة للفلسطينيين، فإن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت على طبيعتها، علنا، وبدون رتوش كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية عدوانية، ودولة حرب إبادة جماعية أيضا. ــــــــــــــــــــــــــ شاهد | البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :