احتل قطاع غزة مكانة مركزية في الكفاح الوطني الفلسطيني، رغم أنه يشكل منطقة صغيرة من فلسطين، إذ تبلغ مساحته 360 كيلومترًا مربعًا، ما يساوي 1.3 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، و6 في المئة من مساحة الضفة الغربية (6 آلاف كيلومتر مربع تقريبًا)، تقطن فيه كتلة سكانية كبيرة بلغت 2.5 مليون فلسطيني قبل الحرب، علما بأن تلك المنطقة، التي تقع في الزاوية الجنوبية لفلسطين، وكصلة الوصل بين بلاد الشام ومصر، وآسيا وأفريقيا، فقيرة بالموارد الطبيعية، وهي منطقة محاصرة من قبل إسرائيل منذ 17 عاما، وتعرضت إلى خمسة حروب مدمرة آخرها حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل منذ أواخر العام الماضي. مع ذلك فإن هذا الوضع الصعب، والخاص، لم يحل دون احتلال القطاع مكانة متميزة، كمركز للوطنية الفلسطينية، مرات عدة، الأولى، تمثلت بعقد مؤتمر غزة وتشكيل حكومة «عموم فلسطين» (1948)، برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، التي لم يكتب لها الحياة، بسبب طبيعة النظام السياسي العربي، آنذاك، وضم الأردن للضفة. أما المرة الثانية، فكانت بولادة الوطنية الفلسطينية المعاصرة التي بادر إليها قادة فتح، وأكثريتهم من غزة (ياسر عرفات، وخليل الوزير، وصلاح خلف، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار، وممدوح صبري صيدم). لكن مصير الوطنية الفلسطينية الذي آل إلى الهبوط منذ أفول ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982)، والذي ترسخ أكثر بعقد اتفاق أوسلو (1993) وتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، بدأ في مواجهة تحد جديد مع انطلاق حماس بالتزامن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى (1987 ـ 1993). في الواقع، فإن تلك الحركة، المحسوبة على الإسلام السياسي، التي بنت سلطتها في قطاع غزة (2007)، بدت في نزاع، أو تحدّ، للوطنية الفلسطينية، التي مثلتها فتح، إذ نجم عن ذلك انقسام الكيان السياسي الفلسطيني، بالإضافة إلى التناقض في طبيعتها، أو في فهمها لطبيعتها، وفي صورتها إزاء الآخرين، فهل هي حركة وطنية أم إسلامية؟ هل هي حركة سياسية أم دينية؟ هل هي حركة ذات أجندة أممية أم ذات أجندة فلسطينية خالصة؟ منذ سيطرة حماس على قطاع غزة، بطريقة أحادية وقسرية، لم تستطع إدارة السلطة في غزة، بحيث تبدو كسلطة أفضل من تلك التي لـ فتح في الضفة، ولا الاستثمار في تحويل تلك المنطقة المحررة إلى جنين، أو نموذج للدولة الفلسطينية المقبلة والمفترضة، من جهة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعمراني، وربما لم ترغب في هذا الخيار. أيضاً، بما يخص المقاومة، فهي لم تستطع فرض خيارها على الفلسطينيين، إذ أدارت القطاع بطريقة أحادية، ولم تشرك أي فصيل حتى من حلفائها في ذلك، ثم هي جعلت من تلك المنطقة بمثابة قاعدة للمقاومة، أو لدحر الاحتلال، أو لتحرير فلسطين وإنهاء إسرائيل، علماً بأن كل تلك الخيارات تحتاج إلى إمكانات أكبر من قطاع غزة، ومن إمكانات كل الفلسطينيين، كما تحتاج إلى معطيات عربية ودولية غير متوافرة، ما يعني أنها حمّلت فلسطينيي غزة فوق قدرتهم على الاحتمال في ظروفهم الصعبة. في المحصلة، ومع كل التقدير للتضحيات والبطولات، فقد دفع فلسطينيو غزة ثمناً باهظاً جراء حصار إسرائيل للقطاع، وجراء نمط إدارة حماس للقطاع (مع الضرائب المفروضة عليهم رغم فقرهم)، الأمر الذي فاقم من مشكلات الفقر والبطالة وانعدام الأمل عندهم. ويمكن لفت الانتباه إلى أن ذلك كله ينم عن تناقض، أو نزعة رغبوية، وحربية، إذ أن قطاع غزة يفتقد الموارد، ومصادر العمل، والأهم من كل ذلك أنه يعتمد في موارده على الخارج، لا سيما على المعابر التي تتحكم بها إسرائيل التي تسيطر على موارده من الماء والكهرباء والطاقة والمواد التموينية والمواد الصيدلانية وحركة الخروج والدخول. وبالإضافة إلى كل ما تقدم، ثمة حاجة، أو تطلب، فلسطينيي غزة للعمل في إسرائيل، إذ ثمة نحو 20 ألف عامل نظامي كانوا يعملون فيها (قبل الحرب) من أصل 200 ألف عامل (من فلسطينيي الأراضي المحتلة 1967)، وهو أمر يتناقض مع فكرة الصراع الوجودي مع إسرائيل. أما فاتورة الخسائر البشرية، فبالإضافة إلى ضحايا “الحسم”، أي هيمنة “حماس” على غزة (2007)، وهم نحو 400 ضحية، ثمة أيضاً 326 فلسطينياً قضوا بالرصاص الإسرائيلي، ضمن ما سمي «مسيرات العودة» التي كانت حماس تنظمها، يوم الجمعة من كل أسبوع، طوال عامي 2018 ـ 2019 (بحسب إحصائية لمركز الميزان لحقوق الإنسان)، من دون أن تجبي عوائد مناسبة. أيضا، يجدر التنويه هنا إلى أن القطاع شهد حملة عسكرية مشددة ضمن تداعيات خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت (25/6/2006) نجم عنها، مصرع 556 فلسطينياً (من أصل 692 فلسطينياً استشهدوا في العام ذاته). أما بالنسبة للحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتوالية ضد قطاع غزة، فقد قضى في أربعة حروب السابقة أكثر من أربعة آلاف من الفلسطينيين، مقابل 98 إسرائيليا، في حين ذهب ضحية الحرب الحالية حوالي ربع مليون فلسطيني، بين شهيد وجريح ومعتقل ومفقود تحت الركام، ثمة منهم حوالي 50 ألف قضوا في الحرب (من المسجلين رسميا)، مقابل أقل من 2000 إسرائيلي قضوا منذ السابع من أكتوبر (2023)، منهم 1200 قضوا في ذلك اليوم، أي أن النسبة هائلة جدا بين الطرفين، ناهيك عن دمار 80 بالمئة من قطاع غزة، وتحويله مكانا غير صالح للعيش. طبعاً الفكرة أن المقاومة ينجم عنها أثمان، وأن الاحتلال لا بد من أن يواجه مقاومة، لكن الفكرة هنا، أيضاً مع التقدير للبطولات والتضحيات، أن المقاومة والتضحيات تتطلبان عوائد سياسية، وأن تلك المقاومة يفترض أن تتوازن ولو نسبياً مع الإمكانات، ومع قدرة الشعب على التحمل، وأن تستنزف العدو لا أن تجعله يستنزف شعبها. في الحرب الحالية، بدا واضحاً أن حماس تشتغل وفقاً لاعتبار غزة قاعدة للمقاومة أو قاعدة للتحرير، وهو ما تبين حتى الآن، في تلك الاستعدادات القتالية، والمشكلة في هذا الخيار أنه لا يمكنه أن يخرق من ناحية استراتيجية المعادلات السياسية والعسكرية القائمة، باستثناء الناحية المعنوية. في المقابل فقد شكلت تلك الحرب فرصة لإسرائيل لاستباحة قطاع غزة، واعدام أو أسر مليونين من الفلسطينيين المدنيين، بذريعة حماس، استمراراً لسياستها في نفي الفلسطينيين، أو التعامل معهم كأنهم ليسوا بشراً، أو كأن ليست لهم حقوق كالبشر. كما ثمة سبب آخر يفسر هذا الجنون الإسرائيلي، المتمثل بحرب الإبادة ضد غزة، وهو كسر مكانة غزة، في تاريخ الكفاح الفلسطيني، كمولد وكقاطرة للوطنية الفلسطينية، وضمنه عرض مثال غزة المروع، لإخضاع الفلسطينيين للهيمنة الإسرائيلية، من النهر إلى البحر. ــــــــــــــــــ شاهد | البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :