في الحركتَيْن النسويّتَيْن الغربيّة والعربيّة

  • 11/17/2024
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تُعتبر حريّة المرأة والارتقاء بوضعيّتها الاجتماعيّة موضوعاً محوريّاً للمناقشات العامّة والدراسات الأكاديميّة التي تهتمّ بقضايا الحداثة والتقدُّم، ولاسيّما في مجتمعات العالَم الثالث التي لم تزل تعيش إشكاليّات حقوق النساء وتُطرح فيها العديد من التساؤلات بخصوص تحديد الإطار القانونيّ الذي تندرج فيه، وسياقه الثقافيّ، فضلاً عن الخصوصيّة التاريخيّة التي تحدِّد طُرق تأويلها وكيفيّة تحديد مضامينها حتّى لا تتعارض مع المرجعيّات القيَميّة لهذه المُجتمعات. أمامَ مَوجة العولمة وهيْمنة النيوليبراليّة التي أدَّت مُخرجاتها الاقتصاديّة والسوسيو ثقافيّة إلى بروز الحركة النسويّة كفاعلٍ سياسي، أصبحت هذه الأخيرة تُعَدّ مكوِّناً أساسيّاً للحركات الاجتماعيّة الجديدة بحيث امتدّ تأثيرُها الإيديولوجي ليشمل جلّ بلدان العالَم. حدَّدت الناشطةُ النسويّة الأميركيّة "بيل هوكس" (1952 - 2021) الهدفَ الأساس لهذه الحركة في إنهاء التمييز والاضطهاد على أساس الجندر(النَّوع) (بيل هوكس، 2000)، وانطلاقاً من هذا التصوُّر تتجلّى طبيعة فعلها في الدّفاع عن المرأة من خلال الاعتراف بها كعضوٍ فاعلٍ داخل المجتمع يتوفَّر على الحقوق نفسها التي يتمتّع بها الرجل. ولا يُمكن فهْمُ أهداف الحركة النسويّة من دون إدراجها في سياق التحوّلات الثقافيّة المؤسِّسة لإطارٍ اجتماعيٍّ جديد يَضع حدّاً للهيْمَنة الذكوريّة وللتهميش الاقتصادي الذي ظلَّت المرأةُ ضحيّةً له لعقودٍ طويلة من الزمن. ما يجدر بنا حقّاً ذكره والتنبيه إليه، هو أنّ الأفكار النسويّة باتت تشكِّل مؤشّراً لبناء مرجعيّةٍ قيَميّة جديدة تُزعزع التصوُّرات المألوفة حول الأدوار الاجتماعيّة لكلٍّ من الرجل والمرأة، وتُسهِم بالتالي في صَوْغِ قوالب لغويّة تُعيد الاعتبار للعنصر النسوي داخل منظومة الخطابَيْن القانوني والسياسي. وهذا ما تعكسه لغة الدساتير والنصوص القانونيّة والتنظيميّة المعمول بها، حيث أضحت المُساواة مع الرجل قاعدةً إلزاميّة تُمنح بموجبها المرأة الحقّ في ولوج المناصب العليا والاستفادة من مختلف الحقوق الدستوريّة. على هذا النحو تمكَّنت المرجعيّةُ النسويّة من نَيْلِ الاعتراف بعالميّة حقوق النساء بعدما كانت محدودة إلى حدٍّ كبير أو منكرة، باعتبارها من خصوصيّات الأسرة أو المجتمع أو الثقافة أو الدّين كما تقول شارلوت بنش، إحدى أهمّ الفاعلات النسويّات (أوما ناريان وساندرا هاردينج، 2022). بيد أنّ المُطالَبة بإنصاف المرأة التي أضحت تأخذ بُعداً كونيّاً، تخفي في ثنايا تفاصيلها الكثيرَ من التناقضات التي تُفسِّرها طريقةُ التعاطي معها داخل كلّ بلد على حدة وطبيعة الاستراتيجيّات السياسيّة والإيديولوجيّة التي تنتهجها التيّارات النسويّة من أجل تحقيق أهدافها، ناهيك بالمصالح الماديّة التي يجنيها التوجُّه النيوليبرالي من خلال استغلاله المقنَّع للنساء، وذلك نتيجة نجاح خطابه الإيديولوجي في إقناع الحركات النسويّة بأنّه مدافع عن الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمرأة. لكنّ المُفارَقة تتمثّل في انعكاسات السياسات النيوليبراليّة على الوضعيّة السوسيو اقتصاديّة للنساء التي تتجلّى أساساً في ارتفاع نِسب البطالة والفقر، إضافةً إلى طول ساعات العمل والأجور الهزيلة التي تتقاضاها النساء العاملات في الوحدات الصناعيّة أو مراكز الخدمات والتي تجسِّد أحد أهمّ أشكال العبوديّة الجديدة للمرأة. تتطلَّب دراسةُ ديناميّة الحركات النسويّة وتأثيرات أفكارها الاجتماعيّة الأخْذ بعَيْن الاعتبار لجذروها التاريخيّة والثقافيّة الغربيّة، ونُبرِّر ضرورة استحضار هذا المعطى بالعودة إلى الآثار السلبيّة للمركزيّة النسويّة الغربيّة على تطوُّر حقوق المرأة في مجتمعات العالَم الثالث؛ بحيث قامت بعض الفاعلات النسويّات بمواجهة تصوّرات الأفكار النسويّة الغربيّة بالكثير من الشكّ، لأنّها تُعيد إنتاج عقدة المُنقذ الأبيض كما برز ذلك بشكل رئيس في كتابات الباحثة من أصول هنديّة "جيائري سبيفاك" التي تميَّزت بانتقادها للهيْمَنة النسويّة الغربيّة، حيث أشارت إلى هذا بقولها: "الرجل الأبيض في مهمّة لإنقاذ النساء السمر من الرجل الأسمر" (جيائري سبيفاك، 2003). لعلّ هذا الإشكال ناتج في الأساس عن هيْمَنة الأفكار التي أَنتجها الغرب حول الحريّة والمساواة، ومحاولة إسقاطها على مُجتمعات ذات خصوصيّة ثقافيّة متميّزة وواقع اجتماعي مختلف. وينبغي النظر بشكلٍ نقدي للكثير من الأفكار والبرامج والتصوّرات التي يكون مصدرها الغرب، وذلك لعدم حيادها القيَميّ، إضافة إلى ما لها من تأثيرات سلبيّة على مستقبل تقدُّم مجتمعات العالم الثالث. ونودّ هنا أن نوضح فكرة أساسيّة هي أنّ الدفاع عن حقوق المرأة هو مطلب مشروع، ولكن فقط بموازاة توفُّر هذه المجتمعات على مَناعةٍ ثقافيّة تحميها من الوقوع في التقليد الأعمى للنموذج الغربي، وبالتالي يجب التعاطي مع عولمة الأفكار النسويّة بشكلٍ خاصّ وحقوق الإنسان بصفة عامّة وفق مُقاربة براغماتيّة تهتمّ بالطابع الإنساني للقيَم والحقوق النسويّة؛ وما ذلك إلّا لتلافي أن ينتج عن ذلك استلابٌ ثقافي يجعل من حقوق النساء في العالَم الثالث قناعاً إيديولوجيّاً، ومُبرِّراً سياسيّاً لإعادة إنتاج عقليّة استعماريّة تُعتبر أحد أهمّ أسباب تخلُّف دول العالم الثالث. تندرج هذه الأفكار في إطار قراءةٍ نقديّة للمركزيّة الغربيّة التي كانت تيمةً محوريّة للمذاهب النسويّة ما بعد الاستعماريّة التي حدَّدت طُرقَ اشتغالِها الناقدةُ الأدبيّةُ "نيلي ريتشارد" في قدرة النقد النسوي على تعرية المصالح المنسّقة للهيْمَنة المُتخفّية وراء شفافيّة مُحايدة مُفترَضة في العلامات وفي نموذج إعادة إنتاج المجتمع المُحاكي لتلبية حاجات السوق من خلال تلبية حاجات المُستهلِك السلبي (أوما ناريان وساندرا هاردينج، 2022). تحدّي بناء مشروع حداثيّ محلّيّ إنّ الاختلافات الثقافيّة والتاريخيّة بين العالَم الغربي والعالَم غير الغربي يجب ضبْطها بحسب تصوُّرٍ ينطلق من استغلال المشترك الإنساني واحترام الاختيارات المحليّة التي تعكس إرادة المُجتمعات في بناء نموذجها الحضاري الذي يتضمَّن في ما يتضمَّن الحقوق والحريّات. ومن الواجب في هذا الإطار إعادة فهْم طبيعة العلاقة القائمة بين التفوُّق الثقافي للغرب ومحاولة فرْض العالَم غير الغربي رؤيته لحقوق المرأة وحريّتها، كي تتمكّن الحركات النسويّة والمُدافعون عن حقوق المرأة من بلْورةِ تصوُّرٍ محلّي لا يتنكَّر للبُعد الإنساني والعالمي للحقوق، ولكن في الوقت نفسه لا يَسقط في فخِّ تدعيم أُسس العقليّة الاستعماريّة التي تتغذّى من مَوردِ التفوُّق الثقافي والاستعلاء التاريخي للعالم الغربي الذي شخَّصَ أبعادَه إدوارد سعيد في مفهوم "الاستشراق". وإذا سلَّطنا الضوءَ على واقع حقوق المرأة في العالَم العربيّ، فإنّنا نجد أنّ وصف هذا الإشكال لا يخرج عن إطار ما تطرَّقنا إليه سالفاً والمُرتبط بصدام القيَم الثقافيّة والدّينيّة مع قيَم المركزيّة النسويّة اللّيبراليّة الغربيّة. فاختلال توازن القوى واستمراريّة التبعيّة للغرب، ناهيك بتخلُّف المجتمعات العربيّة، هي عوامل أَسهمت في غوْص هذه المجتمعات في وحلِ التحديث والتشرذُم القيَمي، ما أَعاق مسارَ ارتقائها بحقوق المرأة، مثلما جعلَ ديناميّةَ الحركاتِ النسويّة تصطدم بتناقضٍ بنيوي بين القيَم اللّيبراليّة المُستورَدة والنصوص الدينيّة القطعيّة مثلاً في مسألة المطالبة بالمُساواة في الإرث بين الجنسَيْن. ونشير في هذا الصدد إلى حجْم النقاش العامّ الذي يُواكِب حاليّاً مشروعَ إصلاح مدوّنة الأسرة في المغرب، حيث يتمحور موضوع الجدل حول جملةٍ من المحاور الشائكة من قبيل تقاسُم الممتلكات بين الأزواج والمساواة في الإرث؛ الأمر الذي جعلَ رهان إصلاح المنظومة القانونيّة للأسرة يكشف عن مدى الصعوبة التي تواجهها مساعي تحديث المجتمع المغربي من خلال مراجعة الآليّات القانونيّة من دون إمكانيّة التوافق بين المرجعيّة الدينيّة والمنظور اللّيبرالي للحريّة وحقوق المرأة. وينبغي ألّا ننسى أنّ المحدِّد السوسيو ثقافي لهذا المنظور ظلَّ في تناقضٍ دائم مع إلزاميّة المرجعيّة الإسلاميّة التي تخضع لتأويلٍ بطريركي يدعم سلطة الرجال على حساب حقوق النساء. يُعَدّ إصلاح قانون الأسرة في المغرب ودول العالَم العربي مؤشّراً واضحاً على إشكالٍ تاريخي يتجاوز التحليل الشكلاني أو القانوني ليُلامس أبعاداً مُختلفة تهمّ بالأساس سُبل تحديث المُجتمعات العربيّة من دون المساس بثوابث هويّتها الثقافيّة، التي يُعتبَر المقوِّمُ الدّينيُّ أحد دعائمها الأساسيّة. وممّا زاد من تعقُّد مسألة بناء نموذج عربي للحداثة الاجتماعيّة فَشَلُ كلّ المحاولات التاريخيّة والفكريّة الرامية إلى تحقيق هذا الهدف، وذلك منذ ظهور المشروعات الإصلاحيّة، ولاسيّما في مصر في عهد محمّد علي وما تلاها من جهود فكريّة قام بها ثلّةٌ من المفكّرين كقاسم أمين وسلامة موسى ولطفي السيّد على سبيل المثال لا الحصر. لقد أَسهم عدم نجاح المشروعات الإصلاحيّة الرامية إلى الارتقاء بمكانة المرأة عبر تأويلٍ تقدّمي للمرجعيّة الدينيّة في تراكُمِ العوائق وتواصُلِ الفشل التاريخي للمُجتمعات العربيّة التي أصبحت اليوم تقف في مواجهةِ عَوْلَمَةٍ كاسحة ونيوليبراليّة متوحّشة تُشجِّع على انتشار الانحلال الأخلاقي. يبقى السؤال الرئيس قائماً والمتمثّل في تحديد مدى قدرة المجتمعات العربيّة، ومن خلالها الحركات النسويّة وفعاليّات المجتمع المدني، على بناء مشروعٍ حداثي محلّي يُراعي شرط الخصوصيّة ويلتزم في الوقت نفسه بمبدأ كونيّة حقوق المرأة؟ إنّ الجواب عن هذا السؤال يبقى مرتبطاً بالجواب عن سؤالٍ تاريخي متعلّق بشروط النهضة والتقدُّم التي لم تُسهم التبعيّة العمياء للغرب والتأويل السلطوي والمُحافِظ لقواعد المرجعيّة الإسلاميّة إلّا في إعاقة تحقيقها. *باحث في العلوم السياسيّة من المغرب * ينشر بالتزامن مع نشرة افق الإلكترونية.

مشاركة :